بين جراح الماضى والثقة فى المستقبل
محمد الهادي الدايري
جاء المسار التفاوضى الذى بدأ فى غدامس فى 29 سبتمبر 2014 والذى انتهى باتفاق الصخيرات الموقع عليه فى 17 ديسمبر 2015 فى أعقاب عملية فجر ليبيا التى تم شنها اعتبارا من 13 يوليو 2014 فى العاصمة طرابلس. وكانت هذه العملية قد أدت إلى أزمة حادة دفعت بالشرعية الدستورية إلى اللجوء إلى الشرق الليبى.
بيد أنه لابد من الاعتراف بأن اتفاق الصخيرات انتهى وللأسف إلى استمرار الأزمة الليبية بأوجهها المتعددة، السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية. فقد احتوى على المادة الثامنة التى كشف بعض قادة الإسلام السياسى فيما بعد بأنها وضعت لإقصاء شخص بعينه، وهو المشير خليفة حفتر. جاء ذلك لشعور الإسلام السياسى حينها وأطراف جهوية تحالفت معه فى 2014 فى عملية فجر ليبيا بانتصار وقوة عسكرية على الأرض خاصة وأن الحرب على الإرهاب التى قادها الجيش الوطنى الليبى فى بنغازى ودرنة لم تنته بعد حينذاك. تمسكت إذا هذه الأطراف السياسية والعسكرية التى شكلت حكومة انقلابية فى سبتمبر 2014 سميت بحكومة الانقاذ الوطنى، والتى لم تتحصل على اعتراف دولى، تمسكت بما اعتقدته حينها أنه حل عسكرى منحها قوة تفاوضية فى الصخيرات أدت إلى إقصاء القائد العام للجيش الوطنى الليبى الذى كان قد عينته الشرعية الدستورية ممثلة فى مجلس النواب فى مارس 2015.
إلا أن مساعى أكثر من دولة منخرطة فى الشأن الليبى أدت فيما بعد إلى لقاءات بين رئيس المجلس الرئاسى السيد فايز السراج وقائد الجيش الوطنى الليبى المشير خليفة حفتر فى أبوظبى فى 2 مايو وباريس فى 25 يوليو 2017 ومرة أخرى فى باريس فى 29 مايو وباليرمو فى إيطاليا فى 13 نوفمبر 2018. وبالرغم من تعدد هذه الاجتماعات، إلا أن الخلافات والصراع حول تولى دفة المبادرات لحل الأزمة الليبية التى دبت بين إيطاليا وفرنسا عامى 2017 و2018 أهدرت هذه الجهود، فضلا عن افتقارها لأبسط سبل النجاح، وذلك لعدم وجود توافق دولى جاد لحل الأزمة، خاصة وأن الدول المتدخلة فى ليبيا لم تنظر بعين الرضى للمحاولات الفرنسية والإيطالية.
ثم حقق الجيش الوطنى الليبى انتصارات، ودحره الإرهاب فى بنغازى فى 2017 ودرنة فى 2018 سهلت عليه التواجد فى وسط البلاد، فى الجفرة، والتمدد لمحاربة بؤر الإرهاب فى الجنوب فى أوائل 2019.
ونتج عن ذلك بروز آفاق سياسية جديدة حيث عبر وزير داخلية حكومة الوفاق السيد فتحى باشاغا فى زيارته لواشنطن فى فبراير 2019 عن ارتياحه لتحركات الجيش الوطنى الليبى ضد الإرهاب فى الجنوب. ولم يكن الأمر من مأتاه ليستغرب، خاصة أن مواقف الكثيرين فى الطرفين لا تختلف حول قضية الإرهاب والتطرف، ليعقب ذلك وساطة أمريكية فى اجتماع أبوظبى فى 27 فبراير ضم مرة أخرى رئيس المجلس الرئاسى والقائد العام للجيش الوطنى الليبى حضره المبعوث الأممى الأسبق د/ غسان سلامة وحرص على الإشادة به بعد ذلك وبالأجواء الإيجابية التى سادته.
كانت المؤشرات المتوفرة حينها تفضى إلى أن توافقا ليبيا كان يلوح فى الأفق ليتوج باجتماع بين الطرفين فى جنيف فى أواخر مارس لإتمام التفاهمات العامة التى تم التوصل إليها فى أبوظبى، فى الوقت الذى كانت فيه بعثة الأمم المتحدة فى ليبيا ترتب إلى اجتماع فى غدامس فى منتصف أبريل. إلا أن الجميع فوجئ بهجوم الجيش الوطنى الليبى على غريان فى 4 إبريل 2019 وعى العاصمة طرابلس.
تبددت حينها آفاق الحل السياسى لتكون العاصمة طرابلس وأهلها، وللمرة الثانية بعد 2014، ضحية لمتاهات الحل العسكرى الذى أثقل من آلام وجراح أبناء وبنات الوطن الواحد وانتهى هذه المرة بانسحاب قوات الجيش الوطنى الليبى من طرابلس فى 4 يونيو 2020.
ومن ثم، فرض الحل السلمى نفسه على الأطراف المتصارعة مع تنامى جهود دولية وإقليمية لإنجاحه تنفيذا لمخرجات قمة برلين تمثل فى إعلان رئيسى مجلس النواب والرئاسى الليبيين على وقف إطلاق النار فى 21 أغسطس وليترجم ذلك فى اتفاق لوقف إطلاق النار تم توقيعه فى جنيف من قبل اللجنة العسكرية 5+5 فى 23 أكتوبر من العام الماضى.
كان ظهور مسار عسكرى، بعد مسار اقتصادى، فى الإطار التفاوضى نقلة نوعية لم تفلح البعثة الأممية قبل ذلك من إنجازها، ذلك أن الأزمة متعددة الأوجه ولها أسباب وأبعاد اقتصادية وأمنية، لم تنحصر فى المجال السياسى فحسب، مثلما كان الأمر سائدا فى الإطار التفاوضى الذى سلكته البعثة الأممية فى الصخيرات وما بعدها.
ولم يكن بخاف على أحد أن هذا الاتفاق الذى توصل إليه العسكريون كان قد سهل على ملتقى الحوار السياسى الليبى الذى التأم فى تونس فى نوفمبر 2020 بإشراف بعثة الأمم المتحدة فى ليبيا التوصل إلى خارطة طريق، أحد معالمها إنهاء الانقسام السياسى بتشكيل حكومة وحدة وطنية ومجلس رئاسى جديد وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية فى 24 ديسمبر المقبل.
وتفاءل الكثيرون بعد تشكيل السلطة التنفيذية على يد ملتقى الحوار السياسى فى فبراير الماضى بآفاق انتخابات برلمانية ورئاسية فى نهاية العام على أساس قاعدة دستورية. إلا أن أطراف التيار الإسلامى وحلفاءهم فاجأوا الجميع باعتراضهم على انتخاب الرئيس القادم مباشرة من الشعب مفضلين انتخابه من مجلس النواب الجديد، علاوة على خلافات نشبت فى ملتقى الحوار حول شروط الترشح للانتخابات الرئاسية وصلاحيات الرئيس المقبل.
أشارت هذه الأطراف صراحة إلى تخوفها من فوز المشير خليفة حفتر أو المهندس سيف الإسلام القذافى فى هذه الانتخابات مهددين باللجوء إلى السلاح مرة أخرى إن تم ذلك. تمت الإشارة حينها بوضوح إلى قضايا دم تعود إلى 2011 بين أطراف الصراع فى ذلك العام. الفبراريون الذين تغنوا بالديموقراطية فى انتفاضة 17 فبراير انقلبوا عليها عندما أيقنوا من هزيمتهم فى انتخابات 2014 وها هم يبدون استعدادهم لإعادة الكرة مستقبلا إذا أتت الرياح بما لا تشتهى سفنهم! كما أن بعض أعضاء ملتقى الحوار السياسى تناسوا مؤخرا وأغفلوا ما طالبوا به أنفسهم فى نوفمبر الماضى فى خارطة الطريق بضرورة قبول نتائج الانتخابات المقبلة.
•••
ظهر إذا للعيان أن الثقة بين الأطراف المتصارعة أثناء وبعد 2011 ما زالت معدومة. ولذلك سبب واضح مرده أن مسألة جوهرية لم يتم التطرق إليها حتى الآن تفوق تقاسم السلطة والإطار المؤسسى للدولة. ذلك أن مسارا لا يختلف فى أهميته عن المسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية التى تم انتهاجها حتى الآن لم يتم الشروع فيه يتعلق بالمصالحة الوطنية وببناء أسس الدولة المستقبلية بعد نظرة موسعة تتعلق بجوهر وآثار الصراع السياسى والمسلح، حتى لو أن هيئة وطنية للمصالحة الوطنية كانت قد بذلت مجهودا طيبا فى أعقاب انتفاضة فبراير سيشكل أساسا صلبا لأى عمل مستقبلى.
لا يمكن إذا الاكتفاء بمعالجة الأوجه السياسية والأمنية والاقتصادية، ولا إيجاد قاعدة دستورية بعد فشل مشروع الدستور الذى صوتت عليه الهيئة الدستورية فى جلسة تم التشكيك فى إجراءاتها فى 2017، بدون السعى إلى مصالحة وطنية جادة وشاملة تتضمن عدالة انتقالية بخصوص آثام الأمس التى تسبب فيها العهد الجماهيرى والأخرى التى تلتها وارتكبها «ثوار» وآخرون بعد فبراير. كما أن الحوار لا بد أن يحتوى فى نفس الوقت على ضمانات من أطراف الصراع، من النظام الجماهيرى أو أطياف فبراير، على عدم اللجوء إلى الانتقام من خصومها السياسيين بعد الانتصار فى أية انتخابات مقبلة. الإطار الدستورى الذى يفضى إلى انتخاب رئيس وبرلمان فى المستقبل لا يمنح أية ضمانات تهدئ من روع الأطراف التى تخشى الانتقام وتتمسك بصندوق السلاح فى مواجهة صندوق الانتخابات الذى تخشى أن يؤدى إلى هلاكها.
•••
كما أنه تجدر الإشارة إلى أن خارطة الطريق اعتمدت من ملتقى الحوار السياسى الليبى فى نوفمبر من العام المنصرم كمرحلة تمهيدية للحل الشامل، لكننا لم نر لحد الآن أية ملامح لشمولية الحل كمرحلة مصيرية من مسار برلين، فقد اكتفت الفقرة الخامسة من قرار مجلس الأمن 2570 الصادر فى 16 أبريل الماضى بالإشارة إلى أهمية إجراء مصالحة وطنية واتخاذ خطوات بناء ثقة لإنجاح الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. بيد أنه لا يمكن ربط بناء الثقة بالانتخابات فحسب، بل بالحل الشامل الذى من شأنه إنهاء حالة الصراع المسلح ووضع حد للأزمة المتعددة الملامح. شمولية الحل تتطلب التوصل لاستراتيجية لإنهاء الصراع الدامى وإيجاد حلول لأسباب الأزمة الجوهرية من خلال مخرجات توافقية مرضية فى إطار مصالحة وطنية تتضمن العدالة الانتقالية، فضلا عن عقد اجتماعى، يشكلان دعائم أساسية لهكذا استراتيجية. وبمعنى آخر، لا يتوقف الحل الشامل عند الخروج من مشاكل آنية تسبب فيها الصراع الدامى، كوقف إطلاق النار وتشكيل سلطة تنفيذية وإجراء انتخابات، وهى مسائل عكف على معالجتها مسار برلين (1 و2) لكن شمولية الحل تسعى فى نفس الوقت إلى التعمق فى الأسباب الجوهرية للأزمة.
ومن ثم، ينبغى أن يتوفر مسار تفاوضى يحتوى على حوار جاد يتعلق برأب الصدع الذى تسببت فيه آثام وأخطاء الماضى الفظيعة وبمنظور مستقبلى يتعلق بجميع القضايا الأساسية المطروحة أمامنا كالعدالة الانتقالية ــ وليست الانتقامية ــ والتداول السلمى على السلطة، والموقف من الإرهاب والتطرف، وشكل نظام الحكم اللامركزى، وتوزيع الثروة.. وتنتهى بعقد اجتماعى توافقى حول هذه القضايا المفصلية. ويتطلب الأمر هنا أن يكون الحوار بشأن هذه القضايا مباشرا بين أطراف الصراع السياسى والمسلح، بما فيها النظام السابق، وليس محصورا فى ردهات الهيئة التأسيسية للدستور السابقة!.
لقد أدى مسار برلين إلى نتائج إيجابية لا يمكن إغفال أهميتها، خاصة فى المسار العسكرى، لكنه انتهى إلى صياغة استراتيجية للمرحلة التمهيدية للحل الشامل، وترك الأخير جانبا لمرحلة قادمة، فى حين أن التجربة دللت على أن تجزئة المراحل ضارة حتى بالمرحلة التمهيدية، وأن الأزمة تتطلب الشروع منذ البداية فى صياغة استراتيجية شاملة للمرحلتين التمهيدية والنهائية، لأن الأسباب الحقيقية للصراع والعثرات الناتجة عنه لن تطرح نفسها أمامنا كتحديات فى آخر المطاف، بل أننا وجدناها أمامنا وبقوة منذ بداية تلمسنا لمعالم طريق الاستقرار. فجروح الماضى القريب والبعيد ما زالت حاضرة فى الأذهان والثقة فى المستقبل معدومة عند البعض.
ومن هنا يحتاج الأمر إلى معالجة وتجاوز آلام الماضى والتوافق بشأن أسس المستقبل.
وبناء الثقة للانتخابات وحدها ليس هو الحل.