بين الفيلسوف والسياسي
طه البوسيفي
في كتابه مشروع دائم للسلام ، يحاول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن يوجد وأن يخلق من العدم مقاربة ضمنية وشكلية على مستويين ما بين السياسة والأخلاق كفعلين إنسانيين يرى أن في تزاوجهما سلامةٌ للحياة ، فعن حقل السياسة يقول: “كن مستبصراً كالثعابين”، وعن الأخلاق: “كن بسيطاً كالحمائم وإذا لم يكن هنالك مبدأ واحد يجمعهما فإن الأمر سوف يؤدي إلى صدامٍ ما بين المفهومين أي السياسة والأخلاق”.
يستمر كانط في محاولة استبصار المسألة عن قرب وفي محاولة خلق نقاط مشتركة بين السياسة والأخلاق فيقول :
“إن في مقدروي أن أتصور سياسياً أخلاقيا لا يقبل من مبادئ السياسة إلا ما تقره الأخلاق ، ولكني لا أتصور أخلاقياً سياسيا يرسم مذهبا أخلاقيا يلائم مصالح رجل السياسة” .
هذا النموذج البشري أصبح يحضر بكثرة اليوم، يفسر البعض حضوره بأنه ضرورة تقتضيها متطلبات العمل السياسي الذي أصبح لا يفكر سوى بالنفعية على حساب المحافظة على النموذج المثالي وهو ألا يلدغ الثعبان بطن الحمامة.
كان هذا كانط الذي كتب عن العقل المحض والعقل العملي وكان ملهماً للفيلسوف الكبير الآخر هيغل صاحب فلسفة الدين وأدلة وجود الله وعلم الجمال وفلسفة الفن / و كلها كتبٌ ماتعة عميقة تشرح باستفاضة الفيلسوف عن ماهية الأشياء وميكانيكية الطبيعة، وما وراء الأشياء .
يحدث أن يكون الفيلسوف سياسيا فجون ستيوارت مل كان كذلك، ويحدث أيضاً أن يكون السياسي فيلسوفاً فالبوسني علي عزت بيغوفتش كان كذلك. قد يبدو الأمر للبعض متداخلاً جداً ويستحيل الفصل فيما بينهما لكن الفصل كمن عندما نرى أين برز الرجل هل في ميدان السياسة، أم في حقول الفلسفة.
في ظني البسيط أن ما نحتاجه اليوم هو إضفاء مزيد من الأخلاق إلى العمل السياسي ، نحتاج أيضاً أن نرى العالم من قراءة الفيلسوف لا من نظرة السياسي التي لم تعد تفكر إلا في مصلحتها الخاصة ولو كلف ذلك دمار المجتمعات.
يرى كانط مرةً أخرى أن السياسة الصحيحة لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة للأمام إلا بعد أن تلقي التحية للأخلاق، ويرى كذلك أن الأخلاق تساعد السياسة كثيراً لأنها تقطع في المشكلات التي تستعصي على السياسة، بمعنى أوضح الأخلاق هي الرقيب على السياسة وهي الضابط الذي يحدد الأطر التي تتحرك فيه السياسة لكي تمنع أي انفلات قد يحدثه السياسي الماكر الداهية.
الأخلاق لدى كانط الوجودي التجريبي تحمل مفهومين ، الأول : علم الآداب والعادات ، والثاني : نظرية الحق والشرع .
أما في أنطولوجيا الوجود، فيعرج كانط على فلسفة أرسطو في الأخلاق والسياسة، فهو يرى أن السياسة فرع عن الأخلاق، أما الأخلاق فهي دراسة سلوك الفرد الذي ينبغي أن يكون سلوكا فاضلاً، ويرى أن الخير هو غاية في حد ذاته يتم الوصول إليها عبر العلم والفن، ويرى كذلك بأن السياسة التي تؤسس على الأخلاق والعادات أقوى من التي تؤسس على القوانين المكتوبة لأن الأولى تحفظ الحقوق وتضمن العدالة أكثر.
اليوم في ليبيا لدينا عشرات السياسيين، نراهم في كل مكان، عبر الشاشات، وعلى منصات التواصل، لكننا لسنا نشاهد في الساحة فلاسفةً لو أنهم برزوا وأبرزوا المفاهيم الغائبة قد يكون الحال أفضل مما هو عليه .