بين الشعر والسياسة
خالد القشطيني
رغم كثرة الشعراء في العراق، فالملاحظ منهم شحة مساهماتهم في ميادين الحب والجمال كما في البلاد العربية الأخرى كلبنان ومصر. ِوالسبب في ذلك انشغال شعراء العراق بالسياسة كلياً. وكان هذا مما لاحظه أمين الريحاني خلال زيارته للعراق وسجل ذلك في كتابه «ملوك العرب». قال فيه:
«لولا الشعراء في العراق لسئمت السياسيين. ولولا السياسيون لفررت هارباً من الشعراء. وبكلمة أوضح، لولا الفريقان حولي لكنت من الهالكين. بيد أنني مشيت مثل البهلوان على حبل الاحتفالات والتكريم. أحمل بيدي خيزرانة التوازن، وفي أحد طرفيها كرة السياسة وفي الأخرى قيثارة الشعر. تباركت الأمة التي يتوازن فيها الشعر والسياسة».
بعد أن عقد الريحاني الكبير تلك المقارنة بين الشعر والسياسة، أو بالأحرى بين العاطفة والعقل، مضى في مذكراته ليصف ميول العراقيين فقال ساخراً:
«ليس في أمم الأرض على ما أظن من يهتم بالسياسة اهتمام الأمة العربية، وليس في الأقطار العربية كلها من يشغف بالسياسة شغف العراقيين.
في مدينة بغداد مثلاً ثلاثمائة مقهى، وفي كل مقهى عشرون سياسياً على الأقل يدخنون الأرجيلة ليل نهار، ويديرون شؤون العرش والانتداب. ولكل سياسي من هؤلاء رأي في السياسة الدولية وسياسة العراق غير رأي زميله وجاره. إلا أنهم لحسن الحظ يدخنون وينسون. إن في الأرجيلة لتعتصم الأمة».
قال الزائر الكريم ذلك في يوم من أيام الخير، يوم كان الناس يدخنون النرجيلة، أو الأرجيلة كما آثر أمين الريحاني أن يسميها. يدخنونها وينسون. لكن، قلما يشاهد الإنسان في هذه الأيام أحداً يدخن النرجيلة في العراق. لم يعد الناس يدخنون وينسون.
هذا الشغف العراقي بالسياسة ليس بجديد. إنه جزء من الاتجاه العقلاني الفكري للعراقيين الذي أنتج في العصر العباسي كل تلك المدارس الفكرية والدينية، وجعل بغداد عاصمة العالم في الفكر والتعلم. وبقيت هذه الروح تدب وتجري في عروق العراقيين. ألم يقل الخبراء بأن المصريين يكتبون واللبنانيين ينشرون والعراقيين يقرأون.
وجد أمين الريحاني هذه الروح المتلهفة للعلم والمعرفة، وهذا الميل السياسي للشعر والسياسة كما نجده يلتقي في شخصية الشاعرين معروف الرصافي والجواهري.
لكن الريحاني فاته أن يشير إلى العنصر الثالث، ألا هو عنصر التحدي والتمرد، الذي نستشفه في الكثير من أشعار الرصافي الذي عبر عن ذلك في قوله:
وما هذا وإن آذى بدائي
ولا هو بالأمر العجيب
ولكني أرى أبناء قومي
يدير أمرهم من لا يصيب