بوقعيقيص تفتح المسكوت عنه.. هل الدولة المدنية في خطر؟
لم تكن الزوبعة التي أثارتها عضو ملتقى الحوار السياسي آمال بوقعيقيص، عند تحذيرها من خطر التأسيس لدولة دينية تتراجع فيها الحريات وتتآكل فيها معالم الدولة المدنية لصالح المقدس الديني الموقوف على اجتهادات ومرجعيات مقيدة، حديثاً عابراً أو ترفاً فكرياً، بل إنها عكست مخاوف جناح واسع من الليبيين وسلطت الضوء على واحد من أكثر المواضيع حساسية في الوقت الراهن الذي يصاغ فيه مستقبل البلاد ويجرى فيه التوافق على القواعد الدستورية الحاكمة والناظمة لعمل المجتمع، حيث يرى كثير من الليبيين في مشروع الدستور المرتقب مساحة مرجعية سامية لتعزيز الحريات والتأسيس لدعائم دولة ديمقراطية بمرجعيات حداثية تضمن المساواة وتكافؤ الفرص وحرية التعبير غير الموقوفة على نص أو اجتهاد، بينما يرى فيه آخرون فرصة للإقصاء والتحكم الفردي في سياقات المجتمع.
أثارت بوقعيقيص تساؤلاً محورياً عن المرجعية التي يؤسس عليها النص القانوني وتلتزم من خلاله السلطة التشريعية عند سنها للقوانين والتشريعات، وهو تساؤل لا يخرج عن أحد إطارين: أحدهما ديني ويفرض على سلطة التشريع التقيد بالأحكام المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية والموروث الديني عامة، والثاني هو الإطار المدني الذي يقوم على الاجتهاد البشري المبني على حركة المجتمع والخاضع للنقد والتغيير والتبديل ويتخذ صوراً ليبرالية أو علمانية، وهما إطارين شكّلا طيفاً واسعاً من النقاشات والمماحكات بين أقطاب الفكر والتي وصلت للصدام في كثير من الأحيان.
يُشكّل الدين في المجتمعات الحديثة أحد مكونات الهوية الوطنية، لذلك ترد لفظة الإسلام دين الدولة في معظم الدساتير العربية والإسلامية، كما يقابلها التنصيص على الديانة المسيحية والمذهب المتبع في جل الدساتير الغربية الحديثة، وهي عبارة لا تخرج عن سياقها الهوياتية ولا تنعكس على باقي المواد الدستورية، التي تحمل في الغالب توجهاً مدنياً، إلا أن الجدل يثار مع النص على اعتبار الإسلام مصدراً رئيسياً في التشريع، وهي عبارة إلزامية تفرض على المشرع التقيد الصارم بالنص الديني وتوجب الطعن في مشروعية أي قانون يخالف أو يتجاوز أو يخطئ في تأويل النصوص المقدسة، ووجود هذا النص في الدستور يمنحه صفة السمو على ما عاداها من قوانين.
وفي الحالة الليبية ورد التنصيص الحرفي على إلزامية الشريعة الإسلامية في مشروع مسودة الدستور التي اعتمدتها الهيئة التأسيسية، وهو ما جعله عرضة للنقد والتساؤل المشروع، حيث يترتب على هذا النص عملياً في حال تمريره مراجعة القوانين الليبية لجعل موادها متسقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما يثير إشكاليات عملية حقيقية تصطدم مع مبادئ الدولة المدنية الحديثة والالتزامات الدولية الواردة في العهدين الدوليين المتعلقين بحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها الدولة الليبية، والتي تجعل هذه الاتفاقيات في مركز يسمو على القوانين المحلية، وفق مبادئ المحكمة العليا الليبية التي أقرت سمو الاتفاقيات الدولية على القوانين الداخلية، وهي إشكاليات لا تقدح في النص الديني، ولكن تسلط الضوء على الفهم البشري للنص والجهة المخولة بحيازة سلطة التأويل مع الاختلاف المذهبي والتباين المرجعي في العالم الإسلامي.
واعتماد الأساس الديني يلزم “أسلمة الدولة وقوانينها”، ومن هذا المنطلق فإن قانون العقوبات الليبي الذي دخل حيز التنفيذ مع البدايات الأولى لدولة الاستقلال يستلزم تضمينه نظام الحدود الإسلامية كقطع يد السارق ورجم وجلد الزاني والصلب في جرائم الحرابة، وهي عقوبات في حال إنفاذها ستثير تساؤلات عن مدى وفاء الدولة الليبية بعهودها المتعلقة بمناهضة التعذيب وبصورتها كدولة حديثة، كما يفتح هذا النص تساؤلات عن مدى توافق المعاملات المالية القائمة على الفوائد البنكية والعمولات النقدية مع أحكام الشريعة الإسلامية، حيث سبق أن أصدر المؤتمر الوطني العام قانوناً متعلقاً بتجريم الربا أدت لتضييق عمل المصارف، كما تثار التساؤلات عن حرية التعبير وحرية الدين وكيفية مواءمتها مع حد الردة، بالإضافة لنظام إدارة السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي اشكالات عملية تستوجب نقاشاً مجتمعياً شفافاً يبتعد عن التكفير والغلو ويتيح مجالاً رحباً للاختلاف الذي يوصل لصياغة عقد اجتماعي توافقي يحسم الجدليات ويحدد الثوابت.
ولكن لماذا أثارت تصريحات بوقعيقيص كل هذا الجدل؟
يجد هذا السؤال وجاهته من كون أزمة المرجعية تشكل حجر الزاوية في كل النقاشات المتعلقة بتحديد توجه الدولة وأيدولوجياتها، ومن الطبيعي أن تشغل بال الباحثين والنخب رغم أنها من المسائل شديدة الحساسية لاقترابها من دائرة المقدس، إلا أن التساؤل عن قيمة الأيديولوجية الفكرية، ودورها في بناء مؤسسات الدولة، يعد تساؤلاً محورياً يجد صداه المؤثر في القواعد الدستورية التي تعكس هوية الدولة، وفي مجتمعاتنا العربية، والإسلامية عموماً، تحتل مسألة المرجعية صدارة النقاشات منذ عصر الاستقلال، وقيام الدولة القطرية، وفي ليبيا خصوصاً الدولة التي تقف على أعتاب مرحلة دستورية تأسيسية، تجد نفسها على أطراف العلاقة الحدية، بين المرجعية الإسلامية المؤسسة على الموروث الديني، وتلك الغربية القائمة على قيم العلمانية والانفتاح، فلا خلاف إذاً عن شرعية التساؤل وحق الجميع في خوض النقاشات المتعلقة بمصير الدولة وتوجهها، ولكن أن يستغل الطرح الفكري ويجتزأ من سياقاته إلى مدارات أخرى تقود إلى التكفير والتجريم، فهذا يعني أن الدستور الذي يفترض أن يكون توافقياً سيتحول إلى أداة تخدم تيارات مستفيدة من استمرار سطوتها ووصايتها على الدين والمجتمع.
ومن هنا تثار المخاوف المشروعة، فالتنصيص الدستوري يعني أن التيارات الدينية صار لها إطار قانوني ودستوري متين يمنحها سلطة التكفير والإقصاء لأي صوت يخالف سياقاتها، كما أن تأسيس وإدارة موارد مالية بعيدة عن عيون الدولة أو تخضع لإدارات خاصة تكون مؤدلجة في الغالب كصندوق الزكاة، يعني توفير سطوة مطلقة لهذه التيارات التي تمتلك المال والسند القانوني، بالإضافة لأذرعها السياسية التي تمارس العمل الحزبي مما يعني عملياً استحوذاً على مسارات التفاعل في المجتمع.
وبين كل هذه التجاذبات يجد الليبيون أنفسهم مجبرين على صياغة عقد اجتماعي توافقي يُمثل تجربة ليبية خالصة، تضمن التعايش السلمي وتعيد صياغة الثوابت بأطر حداثية بعد تجربة حافلة امتدت لعقود اختبر فيها الليبيون تداعيات الحكم الشمولي وخطورة الإقصاء والتخوين، فالوطن يظل عنواناً جامعاً يختصر مسافات التباعد ويوفر غطاء للتباين والاختلاف.