بلادنا المسحورة
فيروز العوكلي
لا يزال الناس يحملقون بذهول بالمصاب بالصرع حين تهاجمه إحدى نوباته ويرونه مشهدا كافيا للاقتناع بتفسيرات المشعوذين بأن هذا فعل جانّ أو سحر، رغم أنه من المعروف في عصرنا هذا بأن الصرع مرض يصيب الجهاز العصبي المركزي بالاضطراب ويمكن علاجه بالأدوية أو بالتدخل الجراحي، ومع ذلك يميل الكثيرون في ليبيا للتعامل مع مصائرهم بعالم الماورائيات.
يقول عالم الآثار والأستاذ الجامعي هنري فرانكفورت “إن الإنسان لا يفلح نهائيا في جعل نفسه موضوعا علميا لنفسه. وحاجته للسمو على فوضى التجارب والحقائق المتناقضة تؤدي به إلى البحث عن فرضية ميتافيزيقية قد توضح له مشاكله الملحة. فالإنسان إذا ما تناول موضوع “ذاته” لن يحيد عن التأمل – حتى في يومنا هذا.”
نرى حقيقة هذا القول في إصرار الليبي المعاصر على أن يشير للظواهر الفردية بإصبع الخرافة والخوارق، وهذا ليس لعدم توفر ضفة أخرى تمد البشرية بشتى التفسيرات والحجج والأدلة والاكتشافات في شتى العلوم، بل بسبب هوة بين تلك العصور السحيقة والمعاصرة لم تكلل بعد في بلادنا بالمنهج العلمي والنقدي الكافي لدحضها.
شاهدنا مؤخرا الحملة التي تقيمها مراكز مكافحة الظواهر الهدامة وبعض التيارات الدينية في بعض مناطق ليبيا على السحر، حتى وصل بهم الأمر لتدمير آثار عمرها أكثر من ثلاثة ألف سنة قبل الميلاد منقوش عليها رموز من الكتابة الليبية القديمة (أبجدية الأمازيغ / تيفيناغ) اعتبرتها هذه التيارات الدينية طلاسم وسحرا، كأنها السبب والمشكلة والخلاص لكل مشاكل الليبيين وبلادهم. كانوا يخرجون من تحت التراب والقبور دمى عليها أسماء ورموز وأشكال أخرى من الرموز كالأقفال وأعضاء من الحيوانات والطيور، ولا يعرفون أن أشكال السحر هذه لها جذور ضاربة إلى مرحلة ما قبل التاريخ؛ أي قبل حتى ظهور الأديان، حيث أظهرت اكتشافات علماء الآثار والحفريات صورا منقوشة على جدران الكهوف والمغارات تثبت أن إنسان العصر الحجري مارس طقوسا من السحر متمثلة في المحاكاة والتمثيل الرمزي، وطوّرت هذه الأساليب فيما بعد بسبب حاجة البدائي للتفاوض مع الطبيعة وهو يقف مشدوها أمام ظواهرها والأصناف الأخرى من الكائنات الحية.
هذه الحملات التي يؤمن بفعاليتها القائمون عليها وضحاياها المزعومون ومرتكبوها ومشاهدوها في هذا العصر العظيم من تطور الفكر الإنساني، تجعلنا نظهر كما لو أننا في المرحلة الأولى من مراحل التطور الفكري الإنساني الثلاث (السحر، الدين، العلم) التي قدمها جيمس فريزر أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كامبريدج (1804 – 1941), وفي المحاولات العديدة لتفسير السحر من باب علمي؛ قدّم فريزر قانونين مغلوطين مبني عليهما السحر إذا اعتبرناه علما: التشابه والاتصال، وبناء على هذين القانونين لدينا ثلاثة أنواع من السحر: سحر المحاكاة، السحر التشاكلي، والسحر الاتصالي.
بداية لاحظ إنسان العصر الحجري القديم التشابه بين الأشياء وتكرارها في العالم حوله، وبني على هذه الملاحظة علاقات سببية؛ أي إنه بسبب أن هذا يشبه ذاك سيكون هناك نتيجة مرجوة، فكان حين يريد أن يضمن الصيد مثلا يقوم برسم حيوان ويدور حوله وهو يترنم ببعض الكلمات، وفي الثقافة النيوليتية العائدة لما قبل الألف الخامس قبل الميلاد أظهرت بعض الآنية الخزفية المكتشفة رسومات لأربع نساء عاريات يقمن بطقس سحري لاستنزال المياه (الاستسقاء) عبر نثر شعورهن في حركة تشبه حركة الرياح حيث كان يعتقد أنه بسبب التشابه في نثر الشعور وبين حركة الريح قوة ما ورائية ستنزل المطر. وهكذا ابتكر البدائي أسلوبا من ملاحظته يعتقد فيه بشدة بأن التشابه له نتيجة يمكن ممارسة السحر على العدو ومراوغة الطبيعة من خلالها.
ثم بعد ذلك عرف إنسان العصر الحجري الحديث الزراعة ولاحظ قوة التشابه والاتصال التي بين البذرة والنبتة، وكيف يمكن للبذرة أن تنبت نفس نوع النبتة مرات لا متناهية، وفسر ذلك تفسيرا بدائيا وصار للاتصال الذي بين جزء الشيء وكله فيما يراه حوله قوة سحرية يمكنه تطبيقها على حياته، ومن هنا جاء اعتقاد البدائي بأن أي جزء منفصل أو متعلق بالإنسان كالشعر أو الدم أو الاسم وحتى الظل لا بد وأنه يتصل بالكل، حتى إنه تعامل مع هذا الجزء من الكل على أنه بديل للإنسان.
وهذا ما كان يفعله المصريون القدامى مثلا ليسحروا أعداءهم أو ليزودوا أنفسهم بقوة ما ورائية تمكنهم من هزيمتهم وذلك من خلال نقش أسماء القبائل المعادية لهم في ليبيا على أوانٍ فخارية كبيرة وتحطيمها في احتفالات دينية مهيبة. وعلى غرار البدائيين في تلك العصور يطلب مشعوذو اليوم بأن يجلب طالب السحر أي شيء متعلق بالشخص المراد سحره، الأمر الذي يجعل الليبي المعاصر مهووسا بالخوف من أن تؤخذ صورته الشخصية على الفيسبوك أو أن يستخدم شعره أو دمه في طقوس سحرية تسيطر عليه وتتحكم في مصيره فيقوم باتباع خطى البدائيين في حرق أو دفن أو تحصين كل ما يتعلق به بعد أن يفصل عنه بالرقية.
نشأت علاقات التشابه والاتصال والمحاكاة هذه من تجربة البدائي المباشرة والعميقة للواقع، وكل هذه الأشكال المبنية من قبل البدائي على قوانين خاطئة هي ما رأيناه في أشكال السحر المدفون التي يؤمن المعاصر الليبي أنها سبب مصائبه ومصائب بلاده.
كما يمكن أن نقتفي أثر علاقة الإنسان بالسحر وإيمانه بقدرة الآخرين على ممارسة السحر عليه من بداياته في تطويع الطبيعة، فبظهور الإنسان العاقل الذي اخترع وصقل وشكل الأداة حسب حاجته وجعل منها وسيلة لترويض وإخضاع الطبيعة لإرادته؛ يكون الشعور بالتفوق والقوة الخارقة.
لم يكن البدائي قادرا في تلك العصور على إنشاء فرضيات سببية منطقية بين الظواهر الفردية والكونية إذ إنها تتطلب منهجا علميا يفصل بين الذاتي والموضوعي وهذا يتنافى مع تجربته المباشرة والعميقة بالواقع. كان يعتمد على ملاحظة تكرار الأشياء وتشابهها وتفسيرها حسيا، وقاده هذا الموقف البدائي من الظواهر الفردية والكونية إلى افتراض وجود علاقة بين هذه الظواهر وبين مصيره، وصار يعيش تجاربه الإنسانية بكونها متصلة بهذه الظواهر الطبيعية، وبأنها تجابهه مجابهة عنصرين من نفس النوع. لقد تطور الفكر الإنساني حتى بات للإنسان المعاصر قدرة على فصل “انطباعه الحسي” عند رؤيته لظاهرة طبيعية كالأمطار، عن “إدراكه العقلي” عند تفسيرها علميا، وقدرة تمكنه من فهم الرابط بين المرض البيولوجي والنفسي وكيف يؤثر أحدهما على الآخر مثل أن نقص فيتامين د قد يؤدي للاكتئاب، أما البدائي بفرضيته أنه والظواهر الكونية تجربة إنسانية واحدة؛ كان يفسرها هي ومصائره إما غضبا، أو رضا من إله أو من قوى كونية ما تود إخباره بشيء، وكان عليه الرد إزاء ذلك.
يقول كرولي ” ليس للإنسان البدائي إلا أسلوب واحد للتفكير، وأسلوب واحد للتعبير، وأسلوب واحد للكلام – الأسلوب الشخصي”. وهكذا كان يرى نفسه والظواهر الطبيعية كأنهما من صنف واحد؛ وثنائية مثل (أنا، والموت) لم يكن يفصل بينهما (بأنا، وهو)، بل أنا (الإنسان البدائي) وأنت (الموت).
إنه من المهم الولوج في هذا الأسلوب الشخصي للبدائي وعالم ما ورائياته لنعرف كيف تطور أسلافنا وكيف طوروا طرق تصديهم لمخاوفهم من الظواهر الفردية والكونية شيئا فشيئا إلى فكر تأملي خطا بالبشرية نحو إنشاء علاقات سببية، ويا لها من إثارة أن نعرف كيف اضطربوا ومرّروا هذا الاضطراب لعصور عظيمة تكونت فيها بذور البحث والعلم، على أن يظل هذا العالم التوهمي والخيالي في إطاره القصصي والمغامر، لكن المعاصر الليبي لم يترك تلك الأساليب البدائية على ضفتها الملائمة لها، والتي نشأت عليها لتتلاقى مع حاجات البدائي، بل يعيش على ضفة عصر العلم والمعرفة والاكتشافات العظيمة ببنية تلك الضفة البدائية.
إن أحد أسباب الخلل كما أراها هي أساليب التفكير الخاطئة، وغياب التفكير الناقد الذي ينادي به المترجم وأستاذ المنطق وفلسفة العلوم بجامعة بنغازي نجيب الحصادي، والذي يحذر في كتابه (حساسات التفكير الناقد) من خطر البدهيات في كونها تصيب الذهن بالشلل والعطالة، ويدعو إلى إعمال آليات التفكير التي تمكننا من تقويم جل ما نتعرض إليه من استدلالات قد تكون خاطئة، فبحسب الحصادي “المعرفة قوام الحياة البشرية، ومعظم المعارف البشرية استدلالية، ومعظم الاستدلالات البشرية خاطئة، ولهذا ثمة حاجة ماسة إلى التفكير الناقد لكونه العلم الذي يميز بين الاستدلالات الخاطئة والاستدلالات الصحيحة.”
يشار إلى السحر مصطلح “العلم الزائف” الذي أطلقه العالم إدوارد بيرنت تايلور، فهو يفسر العلاقات بين السبب والنتيجة كالعلم إنما هو باطل لأن علاقاته السببية كانت دائما مغلوطة لأنها تسقط في الوهم والتصور الإحيائي. ولأن الاعتقاد بالماورائيات لا يمكن أن يكون له أدلة مادية تثبت صحته فقد سقط عن كونه علم، وبحسب فريزر فإنه إذا ما ثبتت يوما صحة وفعالية السحر فسيسمى حينها علما وليس سحرا. ولكن حتى الآن لم يثبت أي نشاط علمي أو معرفي أن مصائب بلد بعينها وأفراد مجتمع بعينه تقع لأنهم مسحورون.
لم تعد هذه الطقوس الماورائية وهذا المنهج الخرافي مخبّأين في بخور الجدات الحميمي واعتقادهن بتفاسير الكائن البدائي التي تداعب ولهَ الإنسان بالماورائيات والتخيل والتفوق، بل إنها تمرر لأجيال وأجيال وتودي بحياة الآخرين وبصحتهم النفسية والبدنية، بل حتى تتسبب بوقوعهم ضحايا نصب مادي، وترمي بنا في عالم من التوهم لا صلة له بالعالم المادي، وهذا لا ينطبق على الطبقة البسيطة التي غالبا لا تتوفر لديها أبسط مصادر العلم المعرفة بل إن أساتذة وأطباء ورجال السياسة يؤمنون حقا بصحة هذه التوهمات ويطمئنون لوجود شماعة تُعلّق عليها أخطاؤهم.
إن خطر هذا الاطمئنان للخرافة والسحر يكمن في جاهزية الأسباب التي توفرها قبل حتى وقوع المشاكل وخطر جاهزية الأسباب يكمن في الاستكانة لها. ولو استكان الإنسان عبر مسيرته البشرية العظيمة لهذا الاطمئنان الواهي لما كنا اليوم حيث نحن ولما استمرت النهضة العلمية وقادت التطور الفكري البشري من ضفة الفكر التأملي البدائي وفوضى الحواس وعشوائية السببية لضفة نشاط علمي ومعرفي أكثر حرص وتأمل ودقة موضوعية.
إننا وبجاهزية الأسباب الميتافيزيقية التي نطمئن لها؛ نقتل أي نشوء لفكرة الاستدلال الصحيحة وتحسس أسباب الفشل وفهمها لتقويمهما ومعالجتها، ونركض مسعورين ننبش القبور وندمر معالم تاريخنا وإرثنا الحضاري ونفتش البحار ومزودات الوقود وخزانات المياه فوق أسطح منازلنا وحدائقنا عن قصاصات ورق وطلاسم ورموز لنثبت أسباب خراب بيوتنا وصحتنا وبلداننا، أسباب عدم حصولنا على حقوقنا وعدم توفر دستور وأمن وسيولة، أسباب أمراضنا وفشلنا وعجزنا، أسباب الفساد والبطالة والموت العشوائي والحروب والكراهية التي تنخر بلادنا، ونغيّب الأسباب الحقيقية على أرض الواقع المادي الذي لا يمكن تقويمه ونحن نطأه بخرافات العصور القديمة، ونستمر في ركضنا خلف المشعوذين تاركين بلادنا ومستشفياتنا وتعليمنا وحقوقنا وأمننا في مهب الجهل والتخلف ونقبع في هذا الصندوق المعتم حتى وصل بنا الأمر أن نقع ضحية استغلال الأطباء لهذا الجانب الخيالي والتوهمي ونسمعهم يبررون أخطاءهم الطبية بأن المقص أو القطن المنسي في أحشائنا جراء عملية جراحية ما هو إلا سحر أو جان تم تسليطه علينا والعياذ بالله.