بغداد وطرابلس.. بعد جغرافي وتجربة مماثلة (2)
حيدر حسين علي
من ركام بغداد ودروسها وعبرها عسى أن تنهض طرابلس وتتعض، نعم فما تمر به ليبيا من سيناريو مشابه للسيناريو الذي مر ولا زال يمر به العراق فالليبيون في نفق مظلم مجاور لنفق نظرائهم العراقيين رغم بعد المسافة الجغرافية بين البلدين إذ لم يكن كلا السيناروهين متطابقين بالمرة.
ونستمر في هذه الحلقات البسيطة غير الغزيرة بالاحصائيات أو التواريخ المعقدة على القارئ والمعتمدة على الذاكرة ونقارن بين الحالتين ونقترح الحلول التي كان يجب أن تقدم للحيلولة دون تفاقم الأوضاع.
الحلقة الثانية
ليبيا لا تستفيد من تجربة العراق
ليبيا تعاني أمنيا بعد التغيير إلا أنها لا تستفيد من تجربة العراق فما عانى منه الأخير على الصعد الأمنية يفوق ما تعاني منه الأولى بعدة مرات إلا أنه خرج منتصرا وفي جعبته خبرات جمة لم تستفد منها ليبيا -للأسف- رغم تكرار السيناريو العراقي فيها.
لم يتحقق أي تواصل ديبلوماسي أو سياسي أو أمني بين ليبيا والعراق بعد ثورة الـ17 من فبراير عام 2011 باستثناء مناسبتين الأولى زيارة سريعة قام بها رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي محمود جبريل التقى خلالها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، والثانية خلال قمة بغداد العربية عام 2012 وخلالها سلّم رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل رئاسة القمة للعراق.
ولعل هذا التجاهل غير معروف الأسباب من قبل المسؤولين الليبيين للعراق وتجربته هو السبب الأساسي إذ لم يكن الوحيد لعدم الاستفادة من التجربة العراقية الغزيرة أمنيا.
وتتجلى هذه التجربة في حقبتين الأولى امتدت منذ العام 2006 وحتى العام 2009 حيث تحولت بغداد خلالها إلى مدينة للأشباح بعد الظهر لا يسير في طرقاتها سوى 3، إما أميركي في دورية عسكرية أو إرهابي من تنظيم القاعدة يجول ويصول بحثا عن سبيل لإزهاق أرواح الأبرياء أو مضطر ساقته الأقدار للخروج من داره.
أما الحقبة الثانية فقد كانت للفترة الممتدة من العام 2014 وحتى العام 2017 وهي الفترة السوداء التي سقطت خلالها ثلث الأراضي العراقية بيد تنظيم داعش الإرهابي، واحتاج العراق للتضحية بعشرات الآلاف من النساء والأطفال والشباب والشيوخ، فضلا عن منتسبي القوات الأمنية والعسكرية بمختلف صنوفها ممن دفعوا حيواتهم ثمنا باهضا للخروج من هاتين الحقبتين.
والحال متشابه تقريبا مع ليبيا التي دخلت في حقبة الحروب والنزاعات بعد العام 2014 لاسيما بعد سيطرة المجاميع الإرهابية والإجرامية على عديد المدن في المنطقة الشرقية، واستهداف الجميع من دون تمييز بين عسكري أو مدني بالتفجيرات الانتحارية وغيرها من الوسائل الإجرامية التي استخدمت في العراق أيضا ومنها قطع الرؤوس والتمثيل بالجثامين.
لقد نفذ الإجرام والإرهاب إلى العراق وليبيا من ذات الثغرة ففي العام 2002 وقبل أشهر قليلة أصدر صدام حسين قرارا بتبييض السجون ما قاد إلى إطلاق سراح العديد من المجرمين ممن طعنوا البلاد في ظهرها فيما بعد، وانتموا إلى الجماعات الاجرامية والارهابية، وذات الحال ينطبق على نظام القذافي الذي أطلق سراح المتطرفين والمتشددين بصفقة مصالحة فاشلة، ليكون هؤلاء النواة لظهور التنظيمات التي تحارب الآن قوات الجيش الوطني إلى جانب باقي العصابات.
ولم تكن هذه هي الثغرة الوحيدة فقد عمد نظام صدام حسين إلى الإتيان بما تم تسميتهم بالمجاهدين العرب بحجة الدفاع عن العراق وصد الغزو الأميركي ليتضح فيما بعد أنهم النواة لتشكيل تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين وذات الحال ينطبق على نظام القذافي الذي استعان بمرتزقة أفارقة لم يخفي وجودهم في البلاد بعد أن أشار في خطابه الشهير إبان اندلاع الثورة الليبية إلى وجود من يدافع عنه من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وتمكن العراق من الخروج من الحقبة الأولى من الإرهاب والإجرام بفضل استراتيجية مهمة تحمل اسم “الصحوات أو أبناء العراق” وهو أسلوب ناجح قاد لاستمالة العديد من المسلحين ممن لم تتلطخ أياديهم بالدماء إلى جانب الحكومة من خلال إعادة تأهيلهم وزجهم في الحياة المدنية أو العسكرية، وهو ما قاد إلى سحب البساط من تحت أقدام قادة تنظيم القاعدة الإرهابي وقاد في النهاية إلى اضمحلال التنظيم ونهايته.
لم تستفد ليبيا من هذه الاستراتيجية المهمة ولم تسعَ إلى تطبيقها -للأسف-، وهو ما قاد إلى ضياع فرصة لسحب البساط من تحت تنظيم القاعدة الإرهابي وتركه من دون عناصر.
وبعد العام 2015 بدأ تنظيم داعش الإرهابي في الانتقال إلى شرق ليبيا وغربها وجنوبها وأصبحت له معاقل عدة إلا أن ما يعاب على السلطات الليبية عدم استفادتها من التجربة العراقية التي تمكنت من القضاء على تنظيم داعش الإرهابي.
وكان الأولى بالقيادة الليبية لاسيما تلك المتماسكة المتمثلة بمجلس النواب وحكومته المؤقتة وجيشها الوطني إيجاد حالة من التفاهمات مع القيادة العراقية؛ لما تمتلكه الأخيرة من خبرات، لاسيما بعد أن تم تصنيف جهاز مكافحة الإرهاب في العراق في مصاف الأجهزة المتطورة في المنطقة؛ لما يمتلكه من خبرات ميدانية لا تمتلكها أرقى الجيوش وحتى الجيش الأميركي ذاته الذي لم يختبر كما اختبر جهاز مكافحة الإرهاب العراقي في قتال الشوارع والمدن، وكان الجيش الوطني وحتى القوات التابعة للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بأمس الحاجة للخبرات العراقية في الحرب ضد الجماعات الإرهابية خلال حرب تحرير بنغازي وسرت.
ولو حصل ذلك التفاهم والتواصل لوفر الليبيون على أنفسهم الوقت والجهد والمال في استئصال هذا الوباء والقضاء عليه
وبث الأمن الاستقرار في عموم البلاد.
وفي الحلقة القادمة سنسلط الضوء على المشاكل الاجتماعية التي حدثت في العراق وليبيا وسبل تجاوزها.