بعوض بوتين وجرذان معمر
فرج عبدالسلام
في الحدث المأسوي الذي يجري الآن في شرق القارة العجوز والمرتبط بمشاهد ميلودرامية مروّعة لم تشهد لها أوروبا مثيلا منذ الحرب الكونية العظمى، كما درج الروس على تسميتها، ما كان أحدٌ، حتى في أكثر السيناريوهات عبثية، يتخيّل حدوثها في زمننا الراهن.
لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان، مشهد درامي أيضا، لكنه غاية في الأهمية والدلالة، سبق وأن تكرّر في مجتمعات شتى وفي مناسبات عديدة، وهو ما تعلق بالأوصاف التي أطلقها الزعيم الروسي بوتين على المعارضين الروس لحربه على أوكرانيا.
فبعد بدء الحرب بقليل، صعّد بوتين حدة خطابه ضد المعارضة، مشبها رافضي الحرب الروسية على أوكرانيا بالخونة الذين سيبصقهم الشعب الروسي كما يبصق المرء بعوضة طارت إلى داخل فمه. وليقول بالحرف “سيكون الشعب الروسي دائمًا قادرًا على تمييز الوطنيين الحقيقيين من الحثالة والخونة، وسيبصقهم ببساطة مثل البعوض الذي طار بطريق الخطأ في أفواههم – يبصقهم على الرصيف. أنا مقتنع بأن مثل هذا التطهير الذاتي الطبيعي والضروري للمجتمع لن يؤدي إلا إلى تقوية بلدنا وتضامننا وتماسكنا واستعدادنا لمواجهة أي تحديات”.
وذهب بوتين بعيدا ليتهم الروس الذين يعارضون الحرب في أوكرانيا بأنهم “طابور خامس” يخدمون المصالح الغربية بخنوع وأنهم على استعداد حتى “لبيع أمهاتم!” لهجة بوتين الحادة حملت إشارات منذرة بالسوء للذين هم على دراية بالتاريخ السوفيتي. وعند هذه الجزئية ربما يجب أن نتذكر أنه أعلن في عام 2005 في خطابه السنوي عن حالة الاتحاد أمام مجلس الدوما أن انهيار الإمبراطورية السوفيتية “كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن” وأنه كان “وباءً” يعزز الحركات الانفصالية التي “امتدت إلى روسيا نفسها. ” وكذلك تصريحه الشهير في مارس 2018 للصحفيين بأنه سيعكس مسار انهيار الاتحاد السوفيتي، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
لكن الجزئية التي تهمنا نحن الليبيين في خطاب الزعيم الأوحد “بوتين” هي نظرة الاستعلاء وتحقير المخالفين والاستخفاف بهم، وكان في ذلك متماهيا تماما مع خطابات القائد الأوحد السابق في ليبيا، الذي وصف معارضيه من الليبيين بالجرذان التي تعيش في المجارير، وتعهد بملاحقتهم والقضاء عليهم في خطابه الشهير “دار دار، زنقة زنقة”
في ليبيا دخلت مفردة جرذان القاموس السياسي الليبي، وما يزال هناك البعض من الهائمين في نعيم تلك الحقبة، يستخدمونها لنعت “الفبرايريين” مرفقة بأوصاف أخرى ليس أقلها العمالة لحلف الناتو… ومرور الزمن وحده، مع التحوّلات التي تصاحبه، كفيل بإعادة تعيير مثل هذه المفردات.
لكن الأمر في روسيا، التي عشتُ فيها ردحا من الزمن وتابعت أحوالها، قد يكون مختلفا تماما…. فمشكلة روسيا أعمق بكثير مما يتصوّر كثيرون، لأن عقودا من القبضة الحديدية المطلقة التي دشنها ستالين بعنفه، إذ تقول أقل التقديرات أنه قتل من الروس أكثر مما قُتل في الحرب العالمية الثانية. هذه القبضة ما تزال تتحكم في العقل الجمعي الروسي، وتجعل الغالبية لا ينشدون شيئا في الحياة سوى المأكل والمأوى، ولا يعرفون، أو يهتمون بما يجري في العالم أو من حولهم، ولهذا تقول التقديرات أن نحو ثمانين بالمائة منهم لا يعرفون شيئا عن حرب بلدهم على الجارة وابنة العم (إن صحّ الوصف) أوكرانيا، ولم يشاهدوا الفظاعات التي ارتكبها جيشهم ضد المدنيين، ويصدقون حكومتهم التي تقول إنها تقوم بعملية خاصة في شرق أوكرانيا لتطهيرها من النازية!
على أي حال، أصبح من وصف شعبه بالجرذان في كنف التاريخ، بالرغم من أن بلاده ما تزال تعاني بعد عشر سنين من غيابه، بسبب إرثٍ استطال أربعة عقود ، إلاّ أن ضابط الاستخبارات كي جي بي السابق، الذي يحكم الدولة العظمى بقبضة حديدية، ويرغب في استعادة الحقبة السوفييتية، ما يزال موجودا بقوة ولأمد طويل ولا يتردد في تهديد خصومه باستخدام السلاح النووي إذا لزم الأمر (هكذا!)، وعلى العالم أن يتعامل مع هذه الحقيقة المرة، وألاّ يتوقع أي مساعدة من الداخل، من خلال حركة شعبية قد تطيح به استنادا إلى الإجراء الخطير الذي أطلقه بيده، واستوجب العقوبات القاسية على بلده وشعبه، فالمأكل والملبس والمأوى عند غالبية الروس لها أسبقية على ما عداها، وتكون أشد وقعا إذا اقترنت بجهل معرفي عام، في ظل سلطة لديها تاريخ طويل في التحكم الإعلام وعقول مواطنيها.