مقالات مختارة
بعضنا لا يرى أن الناسَ سواء
نشر في: 25/09/2019 - 16:35
توفيق السيف
المساواة مثال على القيم الكبرى المفقودة في الثقافة العربية. الواقع أن معظم ما ينطوي تحت المبدأ العريض المسمى «حقوق الإنسان» غائب، أو منتقص بحيث يغدو حضوره وغيابه سواء. وقد تعمَّدت استخدام مثال «المساواة» لأن هذه القيمة محمية في القرآن الكريم، على نحو أكثر وضوحاً من بقية القيم «كالحرية مثلاً».
وأقصد بالوضوح هنا أن أبسط معانيها، صادف هوى عند الناس كافة، وبينهم من ينتمي إلى الثقافة العربية. خلاصة هذا المعنى هي أن «كل إنسان يعد واحداً، ولا أحد يعد أكثر من واحد» وتنسب هذه الصيغة إلى جيريمي بنثام (1748 – 1832) الفيلسوف الإنجليزي الذي يعتبر، على الأرجح، أبرز آباء النظرية النفعية في الفلسفة المعاصرة. هذه الرؤية وظيفية إلى حد كبير، فهي تجيب عن سؤال: «ما هي الطريقة العادلة لتوزيع الفرص والخيرات بين عدد من الأشخاص؟». وقد سبق للفيلسوف اليوناني ارسطو أن عارض هذه الرؤية، التي سمَّاها «المساواة العددية أو الرياضية».
أما سبب ميل الناس إلى المعنى المذكور، فلأنهم يظنونه النتيجة الوحيدة المنطقية لمبدأ التكافؤ الأصلي بين البشر، طبقاً للآيات والأحاديث التي تؤكد القيمة المتساوية للبشر كافة عند الولادة، وأنهم ينتهون إلى «آدم» وهو ينتهي إلى التراب. مبدأ التكافؤ الأصلي، هو الأرضية الفلسفية لفكرة أن «كل إنسان يعد واحداً».
أقول إن هذا أبسط معاني المساواة. أما المعاني المعقدة فلم تحظَ بما تستحقه من بحث في الأدبيات العربية. ولعل أبرز المقاربات من هذا النوع، هي التي جاءت في سياق الرد على الانتقادات المتعلقة بحقوق النساء في الإسلام. وهذه الردود اعتمدت جميعاً مفهوم المساواة الذي صاغه أرسطو، أي مبدأ «معاملة المتساوين بالسوية».
وفقاً لهذه الرؤية، تفهم المساواة على مستويين: المساواة العددية، والمساواة الهندسية. يقصد بالأولى أن جميع الناس متساوون بلا فرق بين أحدهم والآخر. ويقصد بالأخرى أن المجتمع منقسم بطبيعته إلى دوائر وشرائح، تتفاوت فيما بينها حسب مؤهلات أعضائها ومكانتهم، وحجم مساهمتهم في حياة المجتمع. وتبعاً لذلك؛ فليس من العدل مساواة العالم بالجاهل أو المرأة بالرجل أو الجندي بالفلاح… وهكذا. العدالة في رأيه، تقتضي تحديد الدوائر الاجتماعية ومعاملة أعضائها بالسوية، مثل دائرة النساء، دائرة العلماء، دائرة الفلاحين، دائرة العبيد، دائرة الجنود… الخ. إن جميع أعضاء دائرة واحدة، يعاملون بالتساوي، لكن ليس ثمة ضرورة لمساواتهم بأعضاء الدوائر الأخرى.
حسناً… أين تتضح المفارقة؟
حين تسأل عربياً عن مفهوم المساواة الذي يتبنَّاه، فسوف يذكر النوع الأول «كل الناس سواء». وسوف يعتقد أن هذا هو المعنى المراد في الإسلام وفي أخلاقيات العرب. لكن حين تذكر أمثلة من حياتنا الواقعية، مثل التمييز بين الجنسين وأمثالها، فسوف يتراجع إلى موقف اعتذاري أو تبريري، ينتهي لاحقاً إلى تثبيت الرؤية الأرسطية، التي نعلم أنها أمست مستنكرة في عرف العقلاء في هذا العصر.
كتبت قبل أسبوعين عن الحلول الفضائية، أي ما نظنُّه حقيقياً، ثم يظهر عند التحقيق أنه غير حقيقي. وفي مقال اليوم مثال شائع عن هذه الحلول… كلنا ندعي قبول مبدأ المساواة القائل «كلكم لآدم»، لكن بعد التحقيق يظهر أن ما نقبله واقعاً هو مبدأ المساواة الأرسطي، لا لسبب سوى أن الذين صنعوا تراثنا مالوا لهذا الاتجاه.