بعد باريس وباليرمو: الحل ليبي أو لا يكون
الحل لن يتحقق طالما هناك ليبيون يرهنون إراداتهم للخارجي، وسيتحقق عندما يتجاوزون المصالح الشخصية والحسابات العقائدية والقبلية، ويتخلون عن أحقاد الماضي.
الحبيب الأسود
حل الأزمة الليبية لا يزال بعيدا، ونتائج مؤتمر باليرمو لن تكون أفضل من نتائج مؤتمر باريس، فالوعود لا تكفي والتصريحات لا تبني الأوطان، والمشاورات غير مجدية طالما هناك محاولات للالتفاف على أصل القضية.
ففي ظل حالة النفاق الدولي، يفكر الجميع في مصالحه في ليبيا، ولا أحد يفكر في مصلحة الشعب الليبي، وسعي إيطاليا لعقد مؤتمر باليرمو كان بدافع التنافس مع فرنسا التي سبق أن عقدت لقاء في يوليو 2017 بين خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي، ثم جمعت بينهما وبقية الأطراف الداخلية وممثلي دول الجوار والدول ذات الصلة في مايو 2018، ولكن دون جدوى، وحتى الانتخابات التي قيل آنذاك إنها ستنتظم في ديسمبر القادم، تبيّن أنها مجرد سراب.
في 17 ديسمبر 2018 ستحل الذكرى الثالثة لاتفاق الصخيرات الذي فرض على الليبيين حكومة تم اختيارها من قبل قوى خارجية لتقود البلاد لمدة 18 شهرا، وكان من المفروض أن تكفل إعادة بناء الثقة بين الفرقاء وتطبيق الإجراءات الأمنية ومن ثمة العملية الدستورية، ولكن لا شيء قد حصل سوى تكريس الانقلاب الإخواني الذي نفذته منظومة فجر ليبيا بعد انتخابات يونيو 2014 عبر نفخ الروح في المؤتمر الوطني العام المنتهية شرعيته، وتجديد هيكلته في ما سمّي بمجلس الدولة الاستشاري، واستمرار سيطرة الميليشيات على طرابلس وأغلب مدن الساحل الغربي ضمن ترتيبات وهمية، سعى من خلالها المجلس الرئاسي إلى الإبقاء على سلطته المشكوك في شرعيتها نظرا لتجاوز الأجل المتفق عليه في الصخيرات، وكذلك لرفض حكوماته المتعاقبة وعدم حصولها على ثقة مجلس النواب، الذي بات هو الآخر جزءا من المشكلة بدل أن يكون جزءا من الحل.
وبينما يتم يوميا نهب ثروات الشعب الليبي من قبل المافيات واللوبيات والميليشيات، وينخر الفساد هياكل الدولة ومفاصل المجتمع، ويواجه جنوب البلاد اختراقا من قبل متمردي دول الجوار وعصابات التهريب والجماعات الإرهابية والمتاجرين بالبشر، ويعاني المواطن من سياسات التجويع الممنهج، ويعود المجتمع إلى مربع المرض والفقر والأمية والخوف، ولا يهتم العالم إلا بالنفط الذي يتم تصديره يوميا دون أن يستفيد الليبيون من مداخيله.
في حين تتصارع الدول الكبرى من تحت الطاولة على مصالحها في البلاد، وطالما لم يحصل التوافق على تقسيم الكعكة الليبية فإن الأزمة مستمرة، خصوصا وأن فرنسا لم تخف أطماعها في الجنوب الزاخر بالثروات والمتاخم لمناطق نفوذها التقليدية في منطقة الصحراء، وإيطاليا تريد أن تعود لوضع يدها على ما كانت تسميه سابقا بالشاطئ الرابع، وبريطانيا التي وصل بها الأمر إلى الاعتذار لعبدالحكيم بالحاج، تراهن على أتباعها من الإسلاميين المرتهنين بدورهم للقرار التركي القطري، ودونالد ترامب لا يهمه شيء بقدر ما يهمه عائد النفط والغاز، وروسيا لا ترغب في ترك ليبيا لمنافسيها كما فعلت عام 2011.
تاريخيا لم تكن ليبيا بعيدة على الأطماع متعددة الأطراف، ففي 10 مارس 1949، اتفقت بريطانيا وإيطاليا على مشروع بيفن سيفورزا الذي يقضي بفرض الوصاية الإيطالية على طرابلس، والوصاية البريطانية على برقة، والوصاية الفرنسية على فزان، على أن تمنح ليبيا الاستقلال بعد عشر سنوات من تاريخ الموافقة على مشروع الوصاية، وقد وافقت عليه اللجنة المختصة في الأمم المتحدة في يوم 13 مايو 1949 وقُدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للاقتراع عليه، ولكن المشروع باء بالفشل لحصوله على عدد قليل من الأصوات المؤيدة، ونتيجة للمفاوضات المضنية لحشد الدعم لاستقلال ليبيا التي قام بها وفد من أحرار ومناضلي ليبيا للمطالبة بوحدة ليبيا واستقلالها، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 289 في 21 نوفمبر 1949 الذي يقضي بمنح ليبيا استقلالها في موعد لا يتجاوز الأول من يناير 1952، وكُوِنت لجنة لتعمل على تنفيذ قرار الأمم المتحدة ولتبذل جهدها من أجل تحقيق وحدة ليبيا ونقل السلطة إلى حكومة مستقلة.
وفي شهر أكتوبر 1950 تكونت جمعية تأسيسية من 60 عضوا موزعين بالتساوي بين أقاليم ليبيا الثلاثة وفي 25 نوفمبر من العام ذاته اجتمعت الجمعية التأسيسية برئاسة مفتي طرابلس لتقرر شكل الدولة، ورغم اعتراض ممثلي طرابلس على النظام الاتحادي فقد تم الاتفاق، وكلفت الجمعية التأسيسية لجنة لصياغة الدستور، فقامت تلك اللجنة بدراسة النظم الاتحادية المختلفة في العالم وقدمت تقريرها إلى الجمعية التأسيسية في سبتمبر 1951 وكانت قد تكونت حكومات إقليمية مؤقتة بليبيا. وفي 29 مارس 1951 أعلنت الجمعية التأسيسية عن تشكيل حكومة اتحادية لليبيا مؤقتة في طرابلس برئاسة محمود المنتصر، وفي يوم 21 ديسمبر 1951، نقلت إلى الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية السلطة كاملة ما عدا ما يتعلق بأمور الدفاع والشؤون الخارجية والمالية، وفي 24 ديسمبر 1951 تم إعلان الدستور واختيار إدريس السنوسي ملكا للمملكة الليبية المتحدة بنظام فيدرالي يضم ثلاث ولايات (طرابلس، برقة، فزان) ورغم كل ما قامت به بعض الدوائر الاستعمارية بعد 1951 من أجل الإبقاء على ليبيا مقسمة وضعيفة تحت ذلك النظام الاتحادي، فإن شعب ليبيا عبر ممثليه المنتخبين قاموا في 26 أبريل 1963 بتعديل دستورهم، وأسسوا دولة ليبيا الموحدة وأزالوا جميع العقبات التي كانت تحول دون وحدة ليبيا تحت اسم المملكة الليبية وعاصمتها طرابلس.
إذا كان هذا قد حدث في تلك الفترة التي كان فيها الشعب الليبي يعد مليونا و200 ألف نسمة، يعاني أكثر من 90 بالمئة من الأمية، فلماذا لا يحصل الآن؟ الجواب يتعلق بالنفط الذي لم يكن قد اكتشف بعد آنذاك، وبالثروات الأخرى التي تزخر بها ليبيا، وبصراعات المصالح بين القوى المتنافسة، والتي تهدد بالعودة إلى ما قبل ليبيا الموحدة.
إذن الحل لن يتحقق طالما هناك ليبيون يرهنون إراداتهم للخارجي، وسيتحقق عندما يجتمعون على هدف واحد، وعندما يتجاوزون المصالح الشخصية والحسابات العقائدية والحزبية والقبلية والجهوية، ويتخلون عن أحقاد الماضي، ويفككون الميليشيات ويغلقون سجونها، ويجمعون السلاح ويوحدون قواتهم المسلحة، ويعلنون المصالحة الشاملة في مؤتمر جامع، يقولون من خلاله؛ ها نحن قد قررنا مصيرنا بلغة الحوار لا بلغة السلاح وعندئذ سيضطر الجميع لدعمهم بدل التنافس على شق صفوفهم.
وللمجتمع الليبي من القوى الناعمة والرموز الاجتماعية والقيم الثقافية والحضارية، ما يجعله قادرا على لملمة جراحه والخروج من النفق بدل انتظار الحلول الجاهزة التي قد تأتي من الخارج، ولن تأتي.