بطل وضحية
محمد رُضــا
انقلب تشارلي تشابلن من ابن الأحياء اللندنية الفقيرة إلى نجم الكوميديا العالمية باكراً في حياته. عانى والمعاناة هي التي تشحذ الهمم وتصيغ الموهبة وتلهم العباقرة. وتشابلن، يشترك معظم المؤرخين بالقول، كان عبقري الكوميديا الأول.
هذا ليس رأيي لأن الكوميدي بستر كيتون، الأقل شهرة منه، كان تجسيد الكوميديا في الإنسان. لم يكن عليه أن يلعب دور المتشرد ولا أن يسخر من الأثرياء هنا ويمثل دور ثري هناك، ولا أن يرفس الممثلين الآخرين على أقفيتهم ليستخرج من الجماهير الضحكة. بل لم يكن عليه أن يضحك مطلقاً. وكمخرج، كان بالتأكيد أكثر تلقائية وانسجاماً مع متطلبات المهنة. سقوطه لاحقاً هو أمر آخر.
لكن تشابلن تميّز بأنه نقل حس اللاجئ من بريطانيا، حيث وُلد، إلى نيويورك، ثم إلى هوليوود، حيث عاش وعمل، قبل أن يموت في مدينة يي السويسرية سنة 1977 عن 88 سنة.
شخصيته على الشاشة كانت منفردة وتمتعت بكل خصال اللاجئ والمتشرد والمدقع فقراً. لديه فيلم مبكر (ثالث أفلامه الأميركية، سنة 1914) عنوانه «سباق في فينسيا» (فينسيا في لوس أنجليس وليس في إيطاليا) يبدو فيه بقبعته وعصاه وببنطاله الطويل وحذائه المفرط وهو يصر على الوقوف أمام كاميرا تود تصوير سباق سيارات. ليس بالفيلم الرائع في تكوينه حتى بالنسبة لتاريخه، لكنه طريف ويوحي بما لحق من أفلام كوّن فيها تشابلن صورته السينمائية.
شخصيته كمتشرد لم تأته بغتة وعندما تمرد على مخرجيه الأول (من بينهم هنري ليرمان ومايبل نورماند)، واستطاع نيل ثقة منتجه الأول (مارك سانِت) طوّر بذرات تلك الشخصية الأولى ونجح بسببها، إذ وجد فيه الجمهور إما تعبيراً صامتاً عنهم أو شخصية مميّزة عن ملوك الكوميديا الآخرين (كيتون، فرانك لويد من بين آخرين).
عندما بدأ تنفيذ أفلامه طويلة طوّر شخصية المتشرد والفقير واللاجئ إلى ما بعد الظهور الأول. في البداية كان مجرد الشخص الذي يهوى الانتقام السريع من كل من يؤذيه. معظم من ينتقم منهم كانوا ذوي سلطة بسبب أموالهم أو مناصبهم (بمن فيهم رجال البوليس). لكن في أفلامه الطويلة الأولى بات مجسداً لشخصية الضحية والبطل في الوقت ذاته. أصبح المتعاطف الأول مع ضحايا آخرين كما في «الفتى» (The Kid) وفي «اللاجئ». هذه المرّة سحابات الحزن الإنساني تماثلت وتوازت مع الكوميديا الضاحكة.
تأخر تشابلن في النطق وواصل طريقه صامتاً رغم نطق السينما. رفض أن يحكي فحقق سنة 1931، أي بعد ثلاث سنوات على نطق السينما، «أضواء المدينة» صامتاً، ثم استعان بالموسيقى في بعض أجزاء «أزمنة حديثة» وواصل هذا المنهج في «الديكتاتور العظيم» (1940) الذي كان تعليقاً على هتلر وحروبه فوصل بفنه إلى المستوى السياسي الأنصع. لعب دورين: اليهودي المسكين والنازي الخطير لكنه لم يجز لا الأول ولا الثاني دعائياً. فلم يتاجر بمتاعب الأول ولم يهن الثاني بل صاغ شيئا من الوسطية فكانت أبلغ تأثيراً من العاطفة.