بجعة ليبيا السوداء .. أو غرابها الأبيض
سالم العوكلي
من الطرائف التي أذكرها من طفولتي أني عثرت مرة على طائر أبيض نافق يشبه الغراب، يبدو أنه من الرخم، وحين عدت إلى البيت وكان لدينا ضيوف قلت بحماس: وجدت غرابا أبيض ميتاً، وضحك الجميع بشكل أحرجني وجعلني أخرج راكضا.
منذ فترة بسيطة زار صديقي نجيب الحصادي بيته في قاريونس ببنغازي الذي نزح منه ولم يره منذ ثلاث سنوات، وجده قد تعرض لبعض الأضرار والسرقات، لكنه أطمأن على مكتبه ومكتبته الخاصة، وحين حدثني في زيارته لي عن البيت ومن يقطن فيه الآن، تداعت الذكريات تباعا، حيث قضينا فيه العام 2007 وجزءاً من 2008 أسابيع نعمل لساعات طويلة، بمعية صاحب الذهن الحاضر، د. زاهي المغيربي، على الصياغة النهائية لمشروع ليبيا 2025 رؤية استشرافية؛ الذي كُلف به رئيس مجلس التخطيط الوطني، محمود جبريل، فريقا من مركز البحوث والاستشارات (جامعة قاريونس).
في البيت نفسه بحي قاريونس غرب بنغازي كنا نطلق الخيال لتوقعاتنا للمستقبل الليبي، والحدوس الممكنة، وفقا لقراءة الواقع الراهن، والتحديات المقبلة، وصيرورة الأحداث المستجيبة للمتغيرات المحلية والعولمية، ونرسم السيناريوهات المتوقعة، ومنها سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة الكابوسي، وسيناريو ثقافة النهوض البديل والمتفائل، والمتوقف على إرادة سياسية وإجراء إصلاحات جذرية من الممكن تسمح بتطبيقه . ذهبت توقعاتنا وحدوسنا إلى كل اتجاه، لكن لم يخطر على بالنا أبدا السيناريو الذي عشناه هذه السنوات الست الماضية، ولا حتى في أقصى شطحات الخيال: ثورة شعبية تجتث النظام في أقل من عام، تعقبها حروب أهلية في أجزاء مختلفة من ليبيا، مقابر جماعية، قتل على الهوية، خطف مقابل فدية، ذبح في الميادين العامة، نزوح مدن كاملة، حكومات تتناطح على شعب بعدد سكان حي شبرا في القاهرة، ملايين من المهاجرين غير الشرعيين يتدفقون على سواحل غرب ليبيا، وآلاف الجثث يرميها المتوسط على ضفافه الجنوبية. بل لم نتوقع أن البيت الذي كنا نتوقع فيه توقعاتنا سينزح منه نجيب وأسرته، بعد 6 سنوات، إلى شقته القديمة في حي الكيش، ويكون في قلب حرب دامية يخوضها جيش ليبي مع جماعات إرهابية تملك الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة.
أحالني كل هذا إلى شطحات التاريخ وإلى كتاب “البجعة السوداء ـ تداعيات الأحداث ير المتوقعة” لمؤلفه: نسيم طالب، ترجمة: حليم نسيب نصر. وهو الكتاب الشيق الذي أحضره لي نجيب في هذه الزيارة، وكان أن وضع كل دهشتي تحت ميكروسكوب دقيق، وعزز رؤيتي الشعرية المتهكمة على التاريخ وقداسته لدى الواثقين من حكمته أو منطقه الأفلاطوني، حيث كتبت يوما دون أن أرى بجعة سوداء :”مضحك هذا التاريخ / الواثق من أوثانه/ يتبختر في المكتبات/ وفي أشداق المعلمين./ مضحك/ مذ كانت أمجاده المكتوبة على السبورة السوداء/ تحيلها إسفنجة إلى غبار”.
يطرح الكتاب بلغة شائقة مسألة التوقعات المستقبلية التي تنطلق من قراءة التفاصيل الصغيرة المتتابعة، أو من سرد الوقائع الموضوعي، وتنسى المصادفة والأحداث الزلزالية النادرة وغير الواردة في منهج الدراسات المستقبلية الورعة، أو كما يقول، نسيم طالب، في أحد عناوينه الشعرية “التاريخ لا يزحف زحفا بل يتقدم في قفزات” وكان ما حدث في ليبيا إحدى قفزات التاريخ التي لم يتناغم معها تفاؤلنا الساذج والنابع من قراءتنا الورعة لكتب التاريخ، ومن عبادتنا لأصنام الأحداث المكررة، متناسين تلك البجعة السوداء التي قوضت فكرة “أن كل البجع أبيض” المحفوظة عن ظهر قلب.
في فصل “تدرج تجريبي مُشكك” يتحدث المؤلف المتحدر من الجنوب اللبناني عن ألف سنة من تاريخ لبنان احتضن فيه ساحله الصغير ما لا يقل عن اثنتي عشرة طائفة دينية “لكن الجنة اللبنانية سرعان ما تبخرت بعد رشقات قليلة من الرصاص وقذائف من الهاون” وكان الكاتب المأخوذ بفكرة البجعة السوداء، والمداوم على زيارة موطنه الأصلي، عاكفا في قبو يحميه من القذائف العشوائية، على أسئلته المقلقة بشأن المصير والحتمية ومحاولات عقلنة التاريخ التعيسة “كيف يمكن لأحد أن يتكهن بأن هذا الشعب الذي بدا مثالا يُحتذى في التسامح سينقلب إلى شعب من أقسى الشعوب بربرية بين ليلة وضحاها”
وهو السؤال نفسه تقريبا الذي يقلبه معظم الليبيين في عتمة لياليهم الهاربة منها الكهرباء، وتحت صوت القذائف العشوائية.
البعض الموضوعي المؤمن بان كل البجع أبيض، أو قياسا على الهوى الليبي، كل الغربان سوداء، يحيل هذه القفزة في التاريخ إلى تفاصيل منطقية تعود به إلى حتمية اللحاق بثورتين قامتا على الحدود، ولكن من كان يتوقع، حتى من باب الخيال الجامح، أن تبدأ ملحمة إسقاط الأنظمة العتيدة في تونس المحكومة بقبضة بوليسية تحسب أنفاس المواطنين، وتجعل الهمس في السياسة في ركن مقهى أو بار معتم ممنوعا؟.
كان الليبيون يتفرجون على ثورتهم مبهورين مثلما يتفرج كومبارس على فلم خيال علمي شارك فيه، ولا يكاد يصدق ما يراه أمامه رغم أنه جزء منه، وكأن المشهد برمته من صنع كاميرا يقف خلفها مخرج فانتازيا.
لكن نسيم طالب الذي وجد نفسه في قلب حرب في هذا البلد الرومانسي الصغير الذي كان يتبختر كطفل في أغاني الفلكلور اللبناني، أو كراعية تسير خلف قطيعها في الأحراش وهي تجمع الزهور، سيتحدث عن اضطراره للقراءة القسرية في ذلك القبو حيث المكان مطبق والزمن بلا حدود، محاولا العثور على إجابة سؤاله السالف، ويغوص في قراءة أعمال هيغل، وماركس، وتوينبي، وآرون، وفيخته، حول الفلسفة والتاريخ “وقد خُيل إلى أنني قد امتلكت فكرة غامضة حول مفاهيم الديالكتيك”، محاولا الوصول إلى فهم نوايا التاريخ، أو ” طريقة عمل تلك الآلة الضخمة التي تتولد عنها الأحداث” لكن ويا للمفارقة ، لن تسعفه كل تلك القراءات العميقة، وسيجد ضالته في كتاب “أخذ منه كل مأخذ” لم يكتبه مفكر، ولكن مشتغل في حقل الصحافة، بعنوان : يوميات برلين “يوميات مراسل صحفي أجنبي، بين 1934 ـ 1941 ” لوليام شيرر”.
كثيرا ما أصادف أشخاصا يبادرونني بسؤال ملح عن المستقبل، منتظرين إجابة شافية مني باعتباري أحد المشتغلين في حقل الثقافة: أيش رايك يا أستاذ سالم ؟ ليبيا وين ماشية ؟ . وبالطبع أعجز عن الإجابة لكوني أحد المتمتعين بورع فطري تجاه فكرة البجع الأبيض، لكني غالبا ما ألوذ، في صدد تسويقي للتفاؤل، بعبارة قالها لي شيخ طاعن في السن في قرية الفائدية بالجبل الأخضر “هذي بلاد يخربوها هلها ويصلحوها هلها” وهو يروي أهم الوقائع التي عايشها منذ مجيئ الطليان إلى ليبيا في إحدى قفزات التاريخ في هذه الجغرافيا. أو ألوذ بحكاية وكر النمل الذي شاهدتُ طفلا تدميره تماما من قبل صبية أشقياء، وبعد يومين عدت لاستطلع أمره، فوجدت النمل قد رمم الوكر وعاد يعمل في طوابير منتظمة وكأن شيئا لم يحدث.
هل كون النمل لا يعي فكرة التاريخ هو ما يجعله مثابرا؟ أم لأن تركيبه الفسيولوجي لا يسمح له بالالتفات إلى الخلف؟. نشرت حكاية النمل على صفحتي، فعلق شخص غاضب، يبدو أنه وجد إجابة شافية للسؤال الذي راود نسيم طالب في قبوه المعتم في قلب الحرب الأهلية، كاتبا : “ليس بين النمل أخوان مسلمون يا أستاذ سالم”. ويبقى دائما العثور على الأجوبة السهلة مهنة من لم يروا في حياتهم بجعة سوداء.
“ليست المعرفة وحدها، بل المعلومات أيضاً، هي التي تحمل قيمة دقيقة” يفسر طالب مبدأ هوسه بدفتر اليوميات. وهذه الفكرة نفسها هي التي تجعل المعلومة ضحية ثورة المعلومات نفسها التي لا تعطي معلومة دقيقة، لتحل التفسيرات والتحليلات بدل الوقائع، وليتوه الجميع في صخب إخباري لا يخبرنا بشيء تقريبا.
يتحدث المؤلف عن جده الذي كان وزيرا للدفاع، ثم للداخلية، ثم نائبا لرئيس مجلس الوزراء في بداية الحرب الأهلية “وبالرغم من مركزه الكبير فإنه لم يبدُ عليه أنه كان يملك أي علم بما سيحدث في البلاد أكثر مما كان يعرفه سائقه ميخائيل” .
لكل هذه الأسباب، ولأن التاريخ يقفز، كانت ظاهرة الربيع العربي مفاجئة للجميع، وبدايتها من تونس أكثر مفاجأة، لذلك بدأت السيناريوهات تكتب أثناء هذه الظاهرة فيما يشبه كتابة المسرح الركحية، من أجل التحكم في إدارة العاصفة، كما فعلت الاستخبارات الغربية مع الثورة البولشفية حيث سمت تلك العملية التي تسعى للتحكم في مجرى الأحداث ب “إدارة العاصفة” وهي العملية التي جاءت في النهاية بالشعبوي ترودسكي الذي كان اسمه الحركي في أرشيف الاستخبارات الألمانية (الأجنبي).
الآن في ليبيا ترسم السيناريوهات المسماة مبادرات حتى من قبل الهواة، والكل يحاول العثور على خارطة الخروج من هذه المتاهة، ولأن المعلومات قليلة أو متلاعب بها، كثيرا ما تعود بنا الخرائط إلى المربع الأول، أما التحاليل فهي تلوذ بما حدث في الماضي لعل خرافة أن التاريخ قد يعيد نفسه تحظى ببرهان.
فهل ثمة بجعة سوداء، وتساوقا مع الروح الليبية، سأقول: هل ثمة غراب أبيض ـ غير غرابي النافق، وغير غراب القاص أحمد يوسف عقيلة في إحدى قصصه ـ سيظهر من هذه الأحراش محلقا في الأفق كي يزحزح الكثير من الاعتقادات الراسخة ويطيح بمفاهيم شائعة متحدرة من ألاف السنين؟؟. وحينها يمكن أن يكون الخيال فعالا والحوار ممكنا، وحينها قد يقفز التاريخ هذه المرة إلى الأمام.
وبشكل عملي أتساءل في قبوي : هل سيكون انعقاد جلسة هادئة للبرلمان الليبي، مثلما حدث في لبنان، وانتخاب رئيس للدولة وتكليف رئيس وزراء يوافَق على حكومته، بمثابة ظهور بجعة سوداء في ليبيا؟ وبأكثر تفاؤلا، هل من الممكن أن يؤدي ظهور بجعة سوداء إلى انتخاب سيدة رئيسة لليبيا؟
وهل كان تعبيرنا الأثير “من ليبيا يأتي الجديد” إشارة تاريخية وضمنية لفكرة البجع الأسود الذي يظهر في ليبيا موسميا؟
أم أننا سنقول عند رؤيتنا لأول بجعة سوداء “عنز ولو طارت” أو معزة ولو طارت، تماشيا مع لهجات ليبية أخرى؟ وفي كل ذلك من لا يروقه البجع أو يعتبر الحديث عنه نوعا من الاغتراب عن الهوية بإمكانه أن يستبدل البجعة بغراب أبيض ولن يتغير شيء.