باكستان بين براكين الانتخابات والانقلابات
عبد الرحمن شلقم
نواز شريف، اسم ورقم في ملاحم بلاد انفصلت ثم انشقت. عاد إلى بلاده متجهاً من المطار إلى السجن. تلك من قواعد السياسة في باكستان. الساسة لهم الكرسي أو القبر أو زنازين السجون.
هو اللاحق لمن سبق، من سياسيين وجنرالات منذ إقامة الدولة.
انفصلت البلاد عن الهند ثم انشقت على نفسها عندما انفرط عقد الإخوة بين بنغلاديش، باكستان الشرقية، وباكستان الغربية إثر حرب أهلية سال فيه الدم، وانقطع حبل الأرض غير المتصلة. الانتخابات والانقلابات، كانت الأوراق والأقلام التي كتبت تاريخ بلاد جمعت القوة والضعف في سلة اجتماعية وُلدت من رحم الرفض وفقست من بيضة الحلم. السؤال: هل حملت الجمهورية الباكستانية الإسلامية الجديدة في أحشائها جزءاً من الهند أم تُركت في أرض تخلُّقِها بعضاً من سوائل الهدوء في الصوت والتوازن في اتخاذ القرار؟ لماذا اختلف البعض عن الكل؟! منذ استقلالها عن بريطانيا لم تشهد الهند انقلاباً عسكرياً. بقيت الديمقراطية البرلمانية أحد أضلاع المثلث المقدس (وحدة البلاد، والديمقراطية، والبقر).
باكستان، الأرض التي لا تغادر تضاريس التاريخ وأعاصير الصدام السياسي، تتوارثها العائلات والجنرالات. القبور والسجون والكراسي، رفاق رحلة الصدام الذي امتلك تقنية التوالد عبر العقود المخضبة بالمعاناة والصراع وقوة السلاح والاستقطاب السياسي الطائفي والجهوي والدولي.
باكستان كيان وُلد من لعبة سياسية وعقيدية فريدة. عاشت الهند ردحاً من الزمن تحت السيطرة البريطانية، وابتدعت الإمبراطورية نهجاً خاصاً لإدارة لؤلؤة التاج البريطاني، الهند. شكَّل المسلمون في الهند الكيان الديني الثاني بعد الهندوس، شاركوا بفعالية في كل المناشط السياسية التقليدية والنضالية، وكذلك العمل الاقتصادي والعلمي والثقافي. لم يغب الصدام بين الطوائف الهندية المختلفة عبر تاريخ البلاد، واتخد البريطانيون من فسيفساء الكيان الهندي أداة لفرض السيطرة الأمنية والسياسية. استخدم البريطانيون الكتلة البشرية الهندية الكبيرة في معاركهم العسكرية في الحرب العالمية الأولى والثانية عبر تجنيد الآلاف منهم، في ذات الوقت استفاد آلاف الهنود من الدراسة في الجامعات البريطانية واندمجوا في المنظومة الثقافية والسياسية البريطانية. هناك حقيقة أخرى كانت حاضرة بقوة في الحراك السياسي الهندي في خضم معركة الاستقلال وكذلك في تأسيس كيان الدولة الهندية الجديدة، وهو الموروث القيمي الروحي الذي رسَّخه المهاتما غاندي، وزرع بذور التسامح بين مختلف الطوائف الهندية. لقد تأسست دولة على موروث من التقاليد البريطانية ولم تبن دولة على تربة العدم. خبرة الضباط الكبار الهنود وتكوينهم الانضباطي في الجيش البريطاني انعكس على أدائهم في الدولة الهندية الجديدة، وأصبح هذا الجسم عامل ترابط ووحدة في الكيان الجديد.
حزب المؤتمر الهندي كيان سياسي امتدّ في حنايا الوجود الوطني منافحاً قوياً للاستعمار البريطاني، ضم في داخله شخصيات من كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي في البلاد ومن كل الطوائف الدينية، وكان للمسلمين الهنود دور فاعل متحد مع كل المكونات من أجل الاستقلال. تزعم المسلمين محمد علي جناح، وكان على وفاق كامل مع القيادات الهندوسية. عمل جنباً إلى جنب مع جواهر لال نهرو. عند توجهت البلاد نحو أبواب الاستقلال بدأ يطفو على أفق المستقبل بعض البقع الفكرية والدينية، حيث أراد البعض من الهندوس تضمين بعض المفاهيم الهندوسية الدستور، مثل النظرة إلى تبجيل البقر وغيرها من الطقوس الهندية. بدأ محمد علي جناح يبرز كمعبّر أوحد عن المسلمين، وتحركت الضغوط من أطراف مختلفة من أجل تأسيس كيان خاص بالمسلمين. في باكستان يشكّل المسلمون الأغلبية، وبدأ البريطانيون يستمرئون الفكرة. الرابطة الإسلامية التي تزعمها محمد علي جناح وُلدت أيضاً من رحم المؤتمر الهندي، لكنّ هذا الجسم السياسي الإسلامي كان جسده وعقله وصوته وزعيمه محمد علي جناح. لم تكن للرابطة طليعة سياسية واسعة وفاعلة في النسيج الاجتماعي الباكستاني، عندما استقلت الهند سنة 1947، وتقرر في نفس الوقت ولادة جمهورية باكستان الدولة الممنوحة للمسلمين، اندفع ملايين المسلمين من مختلف أنحاء الهند نحو الوطن الجديد. القادمون من مناطق مختلفة من الهند لا تجمعهم خيوط تنسج قماشة الهوية الوطنية سوى حزمة من شعاع آمال وأحلام. محمد علي جناح الزعيم الذي أطلق المشروع فكرةً وحوّله إلى دولة إسلامية قُطعت من الهند، لم يكن يملك قاعدة شعبية وقوة سياسية في أرجاء الوطن الجديدة. قشرة رقيقة من المندفعين نحو السلطة. الهوية الوطنية تحتاج إلى سنوات بل إلى عقود كي تتخلق، أما السلطة فهي قوة جذب مغناطيسية عاتية. قالها ونستون تشرشل: «كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن». من سوء طالع باكستان الجديدة أن مبدعها وصانعها محمد علي جناح، كان شخصية تضاربت ألوانها وتضاريس تكوينها. لقد وُلد في أسرة إسماعيلية، ثم تحول إلى الطائفة الشيعية. انفتح على أهل السُّنة، وقضى جزءاً من مراحل دراسته في مدارس مسيحية. ثانية الأثافيّ أنه لم يُمضِ على كرسي السلطة سوى سنة واحدة. تولى الحكم سنة 1947 بعد الاستقلال وانتقل إلى رحمة الله في السنة الثانية. لم يسعفه العمر ليؤسس قوة سياسية وإدارية في الدولة الجديدة، في حين كان للهند حزب سياسي تكوّن عبر سنوات من الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، من كبار قادته، جواهر لال نهرو، الذي قضى سنوات في السجن، ونافح استعماراً بريطانياً مسلحاً بالدهاء والبنادق والسياسة. حكم الدولة الجديدة منذ اليوم الأول لاستقلالها سنة 1947 إلى رحيله سنة 1964. قاد حزبه (المؤتمر الهندي) الذي كانت له قاعدة شعبية عريضة في كل أنحاء البلاد، عابرة للتكوينات العرقية والطائفية. بدأ مباشرةً بتأسيس الهند الجديدة. بهياكلها السياسية والإدارية والاقتصادية والعلمية.
في المقابل، كانت باكستان كياناً يموج فوق هزّات الخلاف السياسي والتباين الاقتصادي والاجتماعي. تعدد رؤساء الجمهورية والوزراء، واضطرب نظام الحكم بين الجمهوري والرئاسي.
نَمَت مبكراً نزعة الانفصال في الجزء الشرقي من البلاد، إقليم البنغال. وبدأت موجة الزلازل، والانقلابات العسكرية وحكم الجنرالات. تتخلل حكمهم محطات انتخابية برلمانية يتولى الحكم من خلالها رئيس وزراء يحقق الأغلبية. فاز ذو الفقار علي بوتو، وشكّل الحكومة، انقلب عليه الجنرال ضياء الحق وشنقه. لكن قبل ذلك، انقلب بوتو على الدستور ووحدة البلاد عندما رفض تسليم الحكم إلى مجيب الرحمن زعيم «حزب رابطة عوامي» في باكستان الشرقية الذي حصل على الأغلبية. اشتعلت الحرب الأهلية التي قادت إلى الانفصال. تحولت باكستان الغربية (دولة ما بعد الانفصال) إلى منصة لقتل الزعماء. شُنَق ذو الفقار علي بوتو، وقُتل الجنرال ضياء الحق في تفجير غامض على متن طائرة، وقُتلت بنازير بوتو… تهم بالفساد، الوصفة التي لا تغيب، والبوابة التي لا تُغلق في وجه السياسيين نحو الزنازين.
أصبحت باكستان دولة نووية بتضحيات كبيرة مالياً، وقدرات هائلة علمياً، لكنها بقيت تتقاذفها براكين الانقلابات وأوراق الانتخابات.