بائع صبّار من تونس
حكيم مرزوقي
الصبار فاكهة تستعصي على التدجين
الذي يقف على عربة بيع فاكهة الصبّار في حارتنا هذا المساء، هو شاب ثلاثيني ممشوق القامة، حاد الملامح، يضع قرطا في أذنه اليسرى، ويربط شعره على شكل ذنب حصان مع الاحتفاظ بلحية تحرس رجولته وتبعد عنه شبهة الانحلال التي قد تخطر في أذهان بعض الناس.
أمثاله من أصحاب عربات الصبّار يشهرون عادة أمواس التقشير في أياديهم وينادون على بضاعتهم بأصوات ناشزة، لكن صاحبنا بدا قليل الكلام ومنشغلا بالاستماع إلى الهيدفون المثبت على آذنه، مما حرّك فضولي وجعلني أسأل عن الشيء الذي يستمع إليه.
مدّ لي بالسماعات، فإذا بها موسيقي ميكيس ثيودوراكيس، وكان ذلك يوم إعلان وفاته عن عمر ناهز 96 عاما.
عجبت لتعلق هذا الشاب الذي كان بالكاد يبدّل خطواته الأولى حين قدم العبقري اليوناني إلى تونس منتصف ثمانينات القرن الماضي، وأقام على مسرح قرطاج حفلا موسيقيا هزّ فيه الجمهور هزّاً، خصوصا في مقطوعة “زوربا” الشهيرة.
اقتنيت من عربة جارنا في الحارة، “حارة هندي”، أي أربع حبات من فاكهة الصبّار بالعامية التونسية (لا تسألوني عن أصل التسمية فقد أتوه وأضيّع الموضوع).. أين كنا؟ نعم تذكّرت، وطفقت أتناول هذه الحبات اللذيذة على عين المكان، وعلى أنغام موسيقى الرجل الذي عارض الدكتاتوريات، عرف ظلمة السجون وقسوة المنافي في سبيل كرامة شعبه.
“أحس أن هذا الهندي (الصبّار) بطعم الكرز الذي اشتهرت به غابات اليونان، تقيأه زوربا في رواية كازنتزاكي، لكثرة ما أحبه وأفرط في تناوله.. هل هذا هو مصير الوطنيات يا رفيق؟” سألت جاري الذي يرتشف خلسة “حارة بيرة” (أي 4 بيرة) كان يخبئها في درج العربة.
ـ الصبار هو كرز تونس، “سلطان الغلّة” كما يلقبه الفقراء، ولكن احذر، فإن الإكثار منه يؤدي إلى الإكتام.. وهي عاقبة أسوأ من تقيؤ الكرز.. ردّ جاري الشاب بائع الصبّار الذي بدأ يفاجئني في كل مرة بسعة قراءاته وخفة ظله.
التسمية الشعبية السائدة للكرز في تونس هي “حب الملوك” وذلك لندرته وطيب مذاقه، أما الصبّار فيكاد يغطي كامل تراب بلادنا الخضراء المسيّجة بالشوك.. وربما، وبسبب ذلك، سمّته العامة “سلطان الغلّة” نكاية في الأغنياء.
وعلى الرغم من تباين الأسعار والمذاقات، فإن الكرز الذي أضحى رمزا لليسار اليوناني بلونه الأحمر القاتم، وكذلك الصبار الذي أمسى عنوانا لصبر وشموخ فقراء تونس وأريافها، بقيت كل منهما، فاكهة تستعصي على التدجين.. وتباعان ـ كالموز الصومالي ـ على ظهر عربة واحدة في الطريق.
انتصف الليل وتوطّدت صداقتي مع جاري الشاب الظريف الذي أمسك فجأة بموسه في يمينه ودعاني إلى رقصة زوربا، فبدونا ـ نحن الاثنين ـ كبحارين مخمورين من جزيرة كريت.