انكشاف الوهم وتبخر الأمل
عمر أبو القاسم الككلي
يبدو أن الوهم قد تولد مع الصيرورة التي أفضت إلى نشوء الإنسان ومغادرته مرحلة الحيوانية السابقة. وهذا الوهم (أو ما صرنا نعتبره وهما) كان دافع الإنسان “للسيطرة” على الطبيعة من جانب، ولصياغة أنظمته الاجتماعية والثقافية، من ناحية أخرى. فالأديان البدائية والأساطير (وهي بمثابة “فكر” ديني) والفنون المختلفة هي أوهام يتوهمها الإنسان بخصوص علاقته بالطبيعة والكون، وما يفترضه خلف وجودهما العياني المادي المباشر من “كائنات” لاعيانية ولامادية، وإن كان يعتقد[يتوهم] أنها قادرة على التجسد والتمرئي.
تمثل هذه المرحلة، في رأي البعض، مرحلة الطفولة البشرية. فالأطفال، حتى الآن، تنشأ لديهم تصورات وتوهمات عن العالم المحيط بهم وعلاقتهم به وعلاقتهم بالبشر الذين يتعاملون معهم.
في سني طفولتي الباكرة كانت لديَّ، بطبيعة الحال، أوهامي. فعندما رأيت الماء متجمدا اعتقدت أن الزجاج يصنع منه!. وفي تلك الفترة التي لا أظن أنني سمعت فيها بالموت تخلق عندي تصور غريب عن الحياة ومسيرة الإنسان. لم يخطر ببالي أن الإنسان يمكن أن يظل يكبر إلى ما لانهاية. وإنما كنت أعتقد أن دورة حياة الإنسان الفرد مغلقة. فهو يولد صغيرا ويظل يكبر إلى عمر معين ليتراجع من ثَمَّ نحو الصغر من جديد! فأنا الآن صغير وسأظل أكبر، لكن أبي وأمي، ثم أخويَّ سيبدأون، في فترة معينة، مسيرة معاكسة لمساري. أي أنهم سيصغرون. وهذا خلق لديَّ أملا بأنني سأنتقم منهم عندما أصبح كبيرا وهم أطفالا، جزاء إساءاتهم التي ارتكبوها ضدي مستغلين كبرهم وصغري.
كانت لدى أسرتي حينها ثلاثة جمال، وكان أحدها فحلا ممتلئا عنفوانا، فكان (ربما لأنه لا يجد أين يُصرِّف عنفوانه) دائم الهيجان، وحين يرغي ينتأ من بين فكيه شيء يشبه الكرة أو البالون يسمونه “الهدارة” لم يكن يظهر لدى الجملين الآخرين. كان أبي وأخي الأكبر دائمي الحذر منه ولا يقتربان منه إلا وهما متسلحان بعصا غليظة وكانا يردعانه بالضرب، إلى درجة أنه أصبح حين يشاهد أحدهما عن بعد يأخذ في الرغاء الخائف المتضرع.
ذات مرة، ونحن على العشاء، ضايقني أخي الأكبر مني ،فقلت له مهددا متوعدا، لكن بكامل الثقة والهدوء:
– تو تشوف شن نديرلك لما تولي صغير. نحطك قدام الجمل.
فضحك أخي الأكبر قائلا:
– لما يولي صغير؟!.
فاكتشفت، عندها، وهمي وزال، إلى الأبد، أملي بالانتقام.