فرج عبدالسلام
وأنا أتابع مقالا مثيرا عن عالمِ طبيعةٍ بريطاني تسعيني محبوب، عُرف باهتمامه بالبيئة ولفتِ انتباه العالم إلى الخطر البيئي الذي يتعرض له الكون، قفز إلى ذهني مثلٌ ليبيٌ يقال في صورة أهزوجة نصّها: “همّا همّا نفس الوجوه اللي تْجيب الغمه!” وتردّدتْ في معرض استهجان الليبيين للسياسيين والمسؤولين الذين يُفرضون عليهم دون أن يكون لهم رأي في اختيارهم، وللأمانة فقد خرج هذا التعبير خلال فترة النظام السابق، عندما كان الأشخاص أنفسهم يتداولون على مواقع المسؤولية الحساسة، وبالطبع دون أن يحدثوا تغييرا ملموسا في حياة الناس. وللأمانة أيضا فقد جرى ترديد هذا القول بوتيرة أكثر في عهد اللانظام الحالي.
لكن ما الرابط بين السير ديفيد أتينبره، ومسؤولينا سيئي الذكر “السابقون منهم واللاحقون”؟ لقد ظل السيد أتينبره يعمل لدى هيئة الإذاعة البريطانية منذ عام 1950، يُنتج ويخرج الأفلام الوثائقية عن الحياة البرية في البر والبحر التي نبهت العالم إلى ما يتعرض له كوكبنا من مخاطر وسوء استغلال، واضطلع بدور كبير للغاية في تشجيع المشاهدين للاهتمام بالعالم الطبيعي، ومن الحقائق المعروفة أن الناس صوّتوا فعلاً لأتينبره: فعندما سُئل البريطانيون مؤخراً: أي من «الرموز الأخلاقية» التي يرغبون في رؤيتها على ورقة البنكنوت فئة 20 جنيهاً إسترلينياً؟… كان أتينبره أول الأسماء المختارة.. وهو يعتبر، في عامه الـ91 الآن، من الكنوز الوطنية البريطانية – مثل ما كان جاك كوستو، وكارل ساغان، من قبله، رغم أنه وبتواضع شديد يُعرِض تماماً عن الأمر، ويرد على اقتراح وصفِه بالكنز الوطني البريطاني قائلاً: «من قال بذلك؟ لم يصوّت أحدٌ على هذا المقترح!»
هذا العجوز الإنسان لا يزال رغم عمره المديد يقدم الكثير لوطنه ولكوكب الأرض، طاف العالم من أجل العمل، ويقول: إنه لا يخطط أبداً للتقاعد. ولكن من يريد لهذا الإنسان الرائع والمفيد أن يتقاعد؟ فهو لا يشبه في شيء سياسيينا المتناحرين على وطن يتشظى ، ينزلق كل يوم من بين أيديهم، ويتصارعون على صحّةِ تفسير قانوني أو دستوري، لجملةٍ أو كلمة وردت في الملحق كذا، من البند كذا، من التفاهم كذا، الذي أدى إلى الاتفاق المعدّل كذا…
يبدو أن المبعوث الأممي غسّان سلامة قد لمس بحقّ عمق الجرح الليبي والتراجيديا المحيطة بالأزمة الليبية، عندما قال بعفوية تامة أثناء لقائه التلفزيوني الأخير إنه مقتنعٌ أن غالبية الليبيين يرغبون في إجراء انتخابات عاجلة، ربّما لأنها الطريقة الوحيدة التي تخلصهم من “الوجوه اللي تجيب الغمة” الجاثمة على صدورهم. لكن سلامة دبلوماسي مخضرمٌ وليس على استعداد لتخريب مهمته قبل أن تبدأ.. فحتى وإن لم يستشهد بهذا الرجز الليبي القاسي الشهير الذي يشفي غليل قومٍ مغلوبين على أمرهم وربما حتى لم يسمع بالأهزوجة الليبية الشهيرة أصلا، إلاّ أنه أصاب الهدف بدقة.