الهوية الليبية.. حرقة السؤال وجرح الإجابة
يقول الكاتب العالمي اللبناني الفرنسي أمين معلوف في كتابة الرائع هويات قاتلة، أنا لبناني وفرنسي بذات الوقت، هذا هو إحساسي، معلوف وهو الذي هاجر من بلدة لبنان صبيا في العشرين من العمر، أنا لبناني وفرنسي ، ولا أجد أي مبرر للتنازل عن لبنانيتي مقابل فرنسيتي ولا العكس.
سؤال الهوية والانتماء هو سؤال وجودي، وفي ليبيا يكتسب راهنية مضاعفة في الوقت الحاضر، ليس جلدا للذات، ولا هي ماسوشية من أي نوع، الاعتراف أن ليبيا ليست دولة متجذرة في التاريخ مثل مصر والعراق مثلا. ولن نخجل من القوى أنه بعد 2011 اكتشفنا أن الهوية الليبية لم يكتمل بناؤها لعوامل عديدة داخلية وخارجية، والهوية هي إحساس ووعي وانتماء يجمع ناسا معينين ويميزهم عن غيرهم..
لا شك أن الدعوة إلى هوية وطنية ليبية جامعة هي بريئة براءة الدئب من دم يوسف من أي شبهه شوفينية اصطفائية استعلائية، عن أي شعب من شعوب البسيطة، هي فقط لتعزيز الانتماء حتى تشكل سدا أمام المشاريع الخارجية لتفتيت المفتت. دولة الاستقلال هي إحدى المحطات المهمة في تكوين الهوية الليبية، لأن وجود هذه الجغرافيا التي تسمي ليبيا اليوم في إطار دولة واحدة موحدة تحت اسم ليبيا لم يحدث تقريبا قبل دولة الاستقلال.
وسوء الحظ مع الأسف يلازم تاريخ ليبيا والليبيين في محطات كثيرة أضاعت على ليبيا فرصا يعسر تعويضها .. فمع بزوغ دولة الاستقلال كان الصراع في المشرق العربي على أشده بين الهويات فوق الوطنية على غرار القومية العربية والأمة الإسلامية، ووصول جمال عبد الناصر للسلطة في مصر وتبنيه خطاب القومية العربية كان محطة فاصلة في التاريخ العربي وتغليب تيار على آخر، فرغم أن بعض الشواهد التاريخية تقول إن تنظيم الضباط الأحرار المصري كان قريبا من حركة الإخوان المسلمين،
إلا أن عبد الناصر فضل خيار القائد العربي على القائد المسلم، وكانت تسونامي القومية العربية الذي اكتسب زخما استثنائيا بعد حرب السويس أو ما يعرف عند القوميين والناصريين بالعدوان الثلاثي، والتاريخ يقول إن السويس لم يكن فيها أي نصر عسكري لمصر، فقط ما حدث أن بريطانيا وفرنسا شنت حربا دون ضوء أخضر أمريكي، فأراد الرئيس الجنرال إيزنهاور إدخال بريطانيا وفرنسا في بيت الطاعة الأمريكي، يتركهم في مواجهة الثيران الهائجة في الكرملين نيكيتا خروتشوف والكسندر بولغانين الانتصار الكاذب جعل ناصر يقترب في مخيلة العرب البسطاء من صورة الإله، فمن ينتصر على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في مرة واحدة ، هو أب كل العرب ولا معنى لأي زعامات قُطرية أمام الأب الذي يحمينا من العدو القديم والجديد .
أمام المد الهائل للقومية العربية كان يقول الرئيس اللبناني الماروني كميل شمعون عندما يستعديه الفرنسيون والأمريكان على عبد الناصر: لا نستطيع أن نخاصم عبد الناصر لأنه قادر على قلب الشارع علينا، وهو هنا يتكلم عن الشارع اللبناني حتى الشارع الماروني ذي العروبية الأرثوذكسية، وهذا كان لسان حال معظم الرؤساء العرب، ولا شك أن الملك إدريس كان أحدهم، فالنزعة القومية العربية كانت تعطل الاشتغال على الهويات الوطنية ، رغم أن نزعة القومية كانت قوية أكثر في المجتمعات التي فيها أقليات مسيحية التي رأت أن رابط القومية هي ما يربطها بفضائها العربي،
ولتدرأ بعبع الأمة الاسلامية الذي سيحولهم في أرضهم من آلاف السنين من مواطنين الى أهل ذمة، وضاعت أغلب سنوات الخمسينيات والستينيات في أوهام القومية العربية التي عطلت الاشتغال على الهوية الليبية بشكل مباشر، تمثل في خوف الليبيين من ناصر، وكثير من النخب الليبية كانت ترى أي هوية غير هوية القومية العربية هو تفريط في قضايانا الأساسية وخيانة للأب البطل ناصر، حتى نتصور مدى عنف تسونامي القومية العربية نُجل بلدا عريقا مثل سوريا في عهد شكري القوتلي ألقت نفسها تحت تخدير أوهام القومية وأصبحت في بلد واحد تحت جناح الأب البطل، ولولا فساد الجنرال عبد الحميد السراج، ربما بقت سوريا سنين أطول تحت الجناح الناصري، لكن الأب البطل وأطروحات القومية العربية تعرضت لصدمة مروعة عندما استطاعت الربيبة الوضعية إسرائيل أن تسحق أربعة جيوش عربية في 6 أيام فقط، وأولهم الأب البطل الذي كان يحمينا ناصر!!
بعد إخفاق حلم القومية العربية بعد السقوط المروع والمذل لناصر عام 1967، ومغادرته المسرح السياسي عام 1970 عندها فقط كان على العرب والمسلمين أن يعيدوا أطروحات وهوية الأمة الإسلامية للمشهد، فأصبحت التيارات الإسلامية تتقدم وتتراجع التيارات القومية، ومع وصول السادات للحكم عام 1970 سعى إلى تصفية التركة الناصرية من ناصرية وقومية عربية عبر فتح المجال للحركات الإسلامية التي قمعها عبد الناصر بعنف بالغ، هذا العنف الذي بلغ ذورته الرمزية بإعدام الداعية الشهير سيد قطب تراجعت الأيديولوجيات الناصرية والقومية والبعثية وتيارات اليسار أمام التيارات الإسلامية وخاصة الإخوان المسلمين الذين كانوا قادرين على مقارعة تيارات اليسار والقومية التي تتأطر من نخب على مستوى ثقافي عال، وفي نهاية السبعينيات عملت المملكة العربية السعودية على تصدير أيدولوجيتها الوهابية حتى تتصدى للثورة الإيرانية الشيعية التي رفع شعارا لها آية الله الخميني، وهو تصدير الثور ولا مندوحة من القول إن الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1978 كان مناسبة إضافية حتى تصدّر السعودية فقهها الوهابي الذي اكتشفت CIA انه ضروري لغرس الفكر الجهادي السلاحي الأكثر فتكا ضد السوفييت في أفغانستان،
لذلك صدرت الوهابية بضوء أخضر أمريكي إلى كل البلاد العربية وتعهدت فيها النزعة الجهادية المتجدرة أصلا بالرعاية والتحفيز ، وكانت الواجهة أفغانستان حيث العدو الروسي، وذلك الوقت كان قمة الحرب الباردة، فهو كان عدوا روسيا، للأمريكان والغرب، وليس للعرب أو المسلمين . في العهد الملكي لم يكن هناك جهدا واضحا تجاه تكوين هوية وطنية واحدة جامعة، لكن على الأقل لم يكن هناك محاولة لإضعاف هذه الهوية الهشة، المملكة كانت تصارع تيارات الهوية فوق الوطنية القادمة من الخارج خاصة التيارات العروبية والقومية، فيما تصارع من الداخل تيارات الهوية تحت وطنية سواء الهوية الجهوية طرابلس، برقة، فزان، أو الهويات القبلية التي كان الملك يعطيها اهتماما خاصا، ثم جاءت حقبة القذافي المديدة وهي تأرجحت بين محاولة تعليق ليبيا في سماء القومية العربية، بما في ذلك من عدم احترام للمكونات الثقافية الوطنية من أمازيغ وتبو وطوارق، وأصبحت تنحو بعد 1977 لربط ليبيا فقط بالنظرية الجماهيرية ومعمر القذافي فقط، الهوية الوطنية هي مفاهيم وانتماءات ورموز، فاسم ليبيا أصبح الجماهيرية ولقبها العظمى، وكل السياسيين والأدباء والرياضيين والفنانين هم نكرات لا تذكر أسماؤهم فقط صفاتهم مسبوقة بقول الأخ؟؟!!..
وإذا كانوا رياضيين يكتفى فقط بالرقم الذي يحمله على كتفيه فريق كرة القدم الليبي كان اسمه الفريق الجماهيري الأخضر، واللاعب الفذ فوزي العيساوي كان اسمه اللاعب الذي يحمل رقم عشرة في فريق النصر، ورئيس الوزراء عبد المجيد القعود كان اسمه الأخ أمين اللجنة الشعبية العامة، والوزير الشهير علي التريكي كان اسمه أمين اللجنة الشعبية للاتصال الخارجي، الأدباء الليبيون النيهوم الكوني وغيرهم، لا يحتفى بهم وهم في منفى اختياري. في المناهج الدراسية لم يتم الاشتغال على تكوين هوية وطنية إطلاقا، حاول القذافي بشكل عبثي ويائس تكوين هوية أيدولوجية على غرار اليسار والناصرية والبعث، هي النظرية العالمية الثالثة، هي من جهة عالمية تنافس الرأسمالية والاشتراكية كما حاول أن يروج المفكر رجب ابودبوس،
ومن جهة أخرى تستعين بالهويات تحت وطنية من قبائل وجهات عن طريق الثعلب خليفة حنيش. في المناهج الدراسية كان الغرس العقائدي زائفا ومضللا، فكانت مسميات الكتب والمناهج التي تحاول بلورة هوية وطنية تعنون في البداية بالتربية القومية، ثم مع بداية الثمانييات بالتربية الوطنية، تغير العنوان وظل المحتوى واحدا يتكلم عن وطن في الخيال وليس الواقع. وطن عربي واحد، وفي تطور أكثر تهورا من سابقاته، أصبح المسمى المجتمع الجماهيري، وحاولت تعليق الطلاب بوهم المجتمع الجماهيري والديمقراطية المباشرة،
النتيجة أننا نعرف أدباء مصر وسوريا أكثر من أدباء ليبيا وشعراء العراق ولبنان أكثر من شعرائنا، ونعرف سياسيي لبنان وفلسطين أكثر من بلدنا التي لا يذكر فيها إلا اسم سياسي واحد، نعرف مارادونا وكل لاعبي الأرجنتين والبرازيل، لكنك لن نتعرف على ونيس خير أو عزالدين بيزان إذا التقيتهم في شوارع أو أزقة طرابلس أو بنغازي، نعرف فناني العرب من عادل إمام إلى نبيل المشيني مرورا بعبد الحسين عبد الرضا، وشذى سالم، لكن لا نعرف الكثير عن أهل بلدنا، لم نتجول في بلدنا ولا نعرف منه إلا الحواضر الكبرى، وأندية الكرة لا تسمى بأسماء المدن، ورغم أن الآداب والفنون تحفل بالأماكن، بل حتى العرب من مميزات أدبهم وشعرهم الوقوف على الأطلال،
بالأعمال الغنائية كانت توقفت عن التغني بالوطن والمدائن بل حتى الملحمة الشهيرة رحلة نغم منعت من التداول، وهو ربما العمل الوحيد الدي يشكل أطلسا غنائيا للوطن بأسره، وتركنا للرواية الشفوية كمرتكز لتأسيس الذاكرة الجمعية والهوية، وهي في بلد جغرافيته شديدة الاتساع لا يمكن إلا أن تكون هوية جهوية أو قبلية، وهذا ما صدمنا فيه عندما فتح القمقم بعد عام 2011. لا يجب أن نبكي على اللبن المسكوب،
ويجب أن تدخل الهوية الليبية ورشة إعادة التأسيس او بتعبير أدق ربما ورشة التأسيس لأنها لم تتأسس فيما سبق، ولكن قطعا هذا لا يكون بتزكية الهويات تحت وطنية كما فعل الرئيس السراج بحضوره معرض الهوية الطرابلسية هو وحرمه المصون، في الوقت الذي نبحث فيه عن مشتركات وطنية، ومحاولة إدخال الهوية الوطنية ورشة إعادة التأسيس، من خلال الإعلام والأدب والتعليم وقبل كل ذلك في الدستور، هذا المقال المتواضع لا يطمح إلا أن يلقي حجرا في مياه راكدة، ورسالته هي من أجل أمننا القومي، يجب أن تدخل الهوية الليبية ورشة إعادة التأسيس، ويجب أن يكون ذلك أولوية للحكومات الليبية القادمة لعقود مديدة.