مقالات مختارة

الهوس الديني.. داعش والإخوان لم يهبطا من السماء

سعد القرش

لا جديد في إثبات الميل المتعالي والسلوك العنيف لجماعات اليمين الديني عبر التاريخ، وبعد غلبة الحداثة البشرية على تلك الطوائف، وبلوغ الرشد الإنساني، بقيت تيارات الإسلام السياسي أقوى تمثيلات تلك الفرق. وينطوي مصطلح الإسلام السياسي على تناقض في العقل اليميني الديني، فلا تستطيع ممارسة كرة اليد بقوانين المصارعة الحرة، وإذا وصفت الإسلام بالسياسي فأنت تحاكم النسبي البشري بقاعدة المطلق الإلهي، وتضفي صبغة قدسية وشرعية على متغير إنساني، فكيف يأتلف ما يختلف؟ وإلى أي حد يمكن قراءة ركام من فتاوى وهابية تكفيرية كادت تحرم على الناس معيشتهم؟ تلك فتاوى تغيرت تماما بعد هبوب ريح التغيير الفوقي في الحجاز، ففاجأتنا فتاوى مضادة لو بعث أئمة التحريم وسمعوا بها لأصيبوا بالجنون.

بدأت كتابة هذه السطور وفي ذهني آية «وقال الشيطان لما قضي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم»، وكنت خارج القاهرة، أشعر باسترخاء ما بعد التحرر من القسط الأخير من الأعباء المالية لسنة دراسية بكلية الصيدلة بجامعة القاهرة، وتوشك ابنتي سلمى على التخرج فيها، ولكنني تعثرت في فتوى لشيخ تكفيري ينطق باسم الله، بنبرة لا يأتيها شك من أي طريق، والفتوى موجهة إلى أولياء أمور طالبات كليتيْ الصيدلة والطب: «لا بد من كلمة الحق، وليغضب من يغضب.. أنت تعلم يقينا أنها غدا ستجلس بجوار شاب في مستشفياتنا.. أنت من باع عرضك، من فتنها أنت يا مجرم، تجلسها بجوار شاب أمرد مخنث من الرجال، مايع».

سوف أنسى أنني مجرم، فهذا اتهام هزلي لا يستحق التعليق، وأسأل: ما الذي يخيف هذا المهووس بالمردان من جلوس فتاة بجوار شاب أمرد يعي الشيخ وإخوانه أن لا خطر منه، وإنما الخطر عليه من المنحرفين ومشوهي النفوس؟

لن يكون في الحجاز الجديد مكان ولا مكانة لأمثال هؤلاء؛ فدين رجال الدين هو دين ملوكهم، ولهم أسوة في صاحب مقولة «الصلاة خلف عليّ أقوم، وطعام معاوية ألذ وأدسم». وستلقى فتوى الطب والصيدلة مصائر الديناصورات، وتستقر سطورا جامدة في سجل تطور العقل البشري وارتقائه، إلا في مصر؛ نظرا لاختلاف طبيعة التربة الاجتماعية المهيأة، كما في السابق منذ استقبلت أولى موجات المد الوهابي، لنمو أجيال جديدة من الإخوان والدواعش وتنظيمات أخرى لم تهبط من السماء، ولن يجتثها من الأرض قرار سياسي.

ربما تتشابه مظاهر التشدد، ولكنه تشابه خادع، يخفي من البواعث أكثر مما يبدي. فحين يفرض نظام سياسي مظهرا شكليا للعلمانية أو للدين، يقترب التفاؤل بزواله، لاقترانه بتشريعات سياسية أو قرارات يسهل أن تتغير تبعا للميول والأهواء والقناعات. أما إذا كانت هذه المظاهر خاضعة لضغوط اجتماعية راسخة، فلا فكاك منها إلا بثورة ثقافية تغير الذهنيات، وهو أمر لا يدعو إلى تفاؤل قريب في مصر.

إذا رفعت القشرة العلمانية التركية ستتحرر قطاعات مكبوتة حرمت من حق الاختيار، وترتد إلى ما شهدته تونس بعد ثورتها التي منحت الحالمين بالحرية في العالم العربي آمالا في التخلص من الاستبداد، وسرعان ما خرج إلى النور من يشتاقون إلى الجهالة، وافتقدوا إلى الحواضن الشعبية، وانسدت آفاق تونس الحرة في وجوههم؛ فلاذوا بسوريا أيام الصعود الداعشي. فهل كان المظهر العلماني الفوقي في البلدين سرابا؟

على الجانب الآخر ينتج عن المعيار السياسي للأخلاق كثير من التواطؤ، بالخضوع الشعبي لظاهر القانون. ومنذ بضع سنوات سألت مخرجة إيرانية عرضت فيلمها في مهرجان سينمائي بنيودلهي: كيف تحتملين صرامة الرقابة على الحريات الشخصية وعلى الإبداع في بلادك؟ كان رأسها حاسرا، فرفعت الشال عن كتفيها، وغطت به مؤخرة رأسها، وقالت: «هكذا». سلوك دال على أن مظاهر التأسلم رهينة الجغرافيا الإيرانية، وأنها ذات طابع سياسي قاهر يسهل التحايل عليه. وفي الحجاز أيضا سيصير «تراث» ابن باز وابن عثيمين ماضيا، في ظل سياسة تتبرأ من كل ما يتعلق بتنظيم الإخوان، بعد أن كانت تعاليم أبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب تطبع مثلا في كتاب «الجهاد في سبيل الله» وتنشره وزارة المعارف. وقد تبنى ذلك الخطاب المتشدد شبان مصريون متحمسون، كانوا يتلقون طبعات من هذه الكتب ويوزعونها مجانا. أفتح على سبيل المثال كتاب «تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام» لعبدالعزيز بن باز، وأقرأ فيه كيف أن إعفاء اللحية وتقصير الثياب من «شعائر الدين»، وأن من ينذر نذرا للأموات «مشرك كافر لا تجوز مناكحته، ولا دخوله المسجد الحرام، ولا معاملته معاملة المسلمين، ولو ادعى الجهل حتى يتوب الله عليه من ذلك، لقول الله عز وجل «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ… ولا تنحكوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم».

بعد ثورة 25 يناير 2011 فكرت في تبديد مقتنياتي من الكتب الترهيبية التكفيرية، ومنها أعمال كنا في الصبا نقتنيها ونتمثلها مستمتعين بجلد الذات، وأغلبها لابن تيمية وابن القيم وأحفادهما من الإخوان. ولأمر لا أجد له تفسيرا أبقيت على الكثير منها، لأجد الشيخ الوهابي يتهمني مع آباء طالبات الصيدلة والطب بما اتهمنا به، فأفرح لنجاة هؤلاء الآباء في الحجاز، وأرثي لوقوعنا تحت مقصلة هوس ديني لا يزيله قرار سياسي؛ فالتأسلم الاجتماعي الشكلي المصري يسري في الدم، ويمنح الفاسدين الصغار والكبار فرصا لما يتوهمون أنه يغسل الروح، فالعامل لا يتقن عمله، ولكنه لا ينسى التسبيح ومراجعة عداد مسبحة رقمية صنعها له صيني لا يؤمن بأن للكون إلها. ويرفض السائق أن يخفض صوت القرآن ويتشاجر معي، وهو يستحل أموال الناس ويستغلهم ولا يلتزم بآداب الطريق.

الهوس الديني بتناقضه مع روح الدين يشمل أيضا رأسماليين طفيليين يملكون سلاسل محال تجارية لا يعمل فيها إلا مسلمون، وأصحاب مدارس يرفضون قبول مدرسات إلا إذا كن محجبات، ولا يبالون بالكفاءة، ويفصلون البنات عن البنين، بحجة الأخلاق التي ليس منها الحرص على جودة الخدمة التعليمية. وخلافا لأطباء طائفيين مثل ياسر برهامي، يوجد مهووسون بالفضيلة، وقد ذهبت صديقة تجاوزت الستين إلى مستشفى قصر العيني، وأمام اختصاصي في أمراض العظام رفعت ثيابها لتريه موضع الألم في الركبة، فأغمض عينيه وأدار وجهه واستغفر، وحثها على الحياء، وأن تشرح له بدون رؤية.

هذا الطبيب ثمرة تنشئة غير سوية وتعليم طائفي، ولا أمل في إصلاح هذه التربة الداعشية التي تلزمها ثورة عقلانية تستعصي على الانكسار.

المصدر
العرب
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى