الهجوم المضاد
عمر أبو القاسم الككلي
لا أتقصد أن أكون قاسيا على أبي، وأن أنتصف من إساءة معاملته لي كتابة. فقد مارست أنا أيضا قدرا من القسوة (التي كنت أعتبرها حزما، وأسلوبا تربويا) على أبنائي. لكنه كان صعب الطباع يعسر التفاهم معه، داخل الأسرة فقط، كما يبدو. كان يسارع إلى إساءة الفهم وردات الفعل الحادة (والحديث يختص بسلوكه داخل الأسرة). وكان لا يحسن التعبير عن نفسه ويُدخل موضوع الخلاف في مواضيع أخرى ذات علاقة بعيدة، فيشوش على الموضوع الأصلي. فمثلا: يحدث أن أحتجُّ على أمي، بحضوره، بسبب عيب في وجبة طبيخ البطاطا التي صنعتها غداء لذلك اليوم، فإذا به يصيح فيَّ فجأة:
– والله يا حلوف، حتى الكسكسي ما عاد ذايقه!.
فأترك أنا موضوع خلافي مع أمي وأسأله عن علاقة حظر الكسكسي باحتجاجي على سوء وجبة البطاطا!. لكن يبدو أن الصلة بينهما في ذهنه تتمثل في أن كليهما من وجبات الطعام، وهو، على أية حال، تكييف لا يخلو من وجاهة!.
كان كثيرا ما ينبهني:
– قاعِد الَّقِّطْلِكْ فيهم.
يقصد الأخطاء. وبالطبع أنا لا أعرف ما الذي يعتبره خطأ وما الذي لا يعتبره. ذلك أنه لم يزودني بلائحة كاملة بأنواع السلوك المحظور ودرجات العقوبات، فأظل أتصرف عفويا، لأفاجأ به أحيانا ينقض عليَّ، دون سابق إحاطة، ويوسعني ضربا وسط اندهاشي وجهلي لدوافعه.
آخر مرة ضربني كان عمري حوالي سبع عشرة سنة، و أظن أنه نشرت لي قصة أو قصتان. وقفت وقلت له بحزم وسط بكائي:
– ما عادش تضرب مرة ثانية!. أيوه!.
لست أدري كيف خاطرت بهذا الموقف. الغريب أنه، رغم عنفه وصلابته وعناده (كان كثيرا ما يقول: انى ع العناد نموت!. وكانت أمي حين أختلف معها أحيانا تقول لي مازحة: عاد انت العناد منين بتجيبه؟! لا بوك ولا أمك عنايدية!) ، لم يعد إلى ضربي بعدها مطلقا، أيا كان عدم رضائه عن سلوكي ومهما تخاصمنا.
كان في خصامه داخل الأسرة عموما يتشبث بنقطة محددة ويظل يعلق عليها بسخرية ويدور حولها مكررا نفس الكلام مع تنويعات بسيطة. كان يفعل ذلك حتى مع أمي، التي رأيته أكثر من مرة يضربها. كانت حين يبدأ خصامه معها تسكت مانحة له فرصة قول وتكرار ما يريد. تظل تستمع إليه بانتباه جالسة تفعل شيئا ما. ثم، عند حد معين، تشن هجومها المضاد في كلام دقيق، واضح، متماسك، مكثف، مركزة على نقاط محددة.
فيضطر إلى الصمت والانسحاب.