النيهوم… الرحيل الإجباري
د. جبريل العبيدي
كان النيهوم قد غادر ليبيا في بداية السبعينات بعد أن عرف أن أفكاره وشهرة كتاباته ستسبب له المضايقات من السلطة، خاصة بعد أن حدثت مشادات بينه وبين بعض من أعضاء مجلس قيادة الثورة. لذا اختار أن يرحل بهدوء وسكينة من أن يثير أية مشاكل، مما دفع السلطات لأن تصدر قراراً بإنشاء دار نشر في خارج ليبيا يكون النيهوم على رأسها.
كان النيهوم مفكراً استثنائياً حاول كتابة التاريخ بشكله الصحيح، وقراءة ناضجة للفكر الديني، في دولة القذافي التي كانت تروج لفكر القذافي ووصفه بـ«المفكر الأوحد»، الذي جاء بالكتيب الأخضير، ومنع كتب المفكرين والشعراء.
لقد تعرض النيهوم للاضطهاد من قيادات في نظام القذافي في ندوة كانت عقدت بداية السبعينات وسميت «الفكر الثوري» وتجاوز فيها القمع الفكري وتكميم الأفواه إلى التهديد بالقتل، وقد تُخلص منه – كما أشرنا – حتى لا يبقى داخل البلاد خوفاً من أفكاره.
بيد أن هناك من يقول إن السبب في عدم تخلص النظام منه، هو أن نجم النيهوم برز في ستينات القرن الماضي، وقبل الفاتح من سبتمبر 1969، فالنيهوم كان ينشر أفكاره في الصحف الليبية المحلية ومنها صحيفة «الحقيقة»، التي كانت تنفد من الأكشاك في الصباح يوم نشر عمود النيهوم الاستثنائي. لذا فإن عملية إبعاده لم تكن بالسهولة.
طرح النيهوم أفكاراً من بينها البحث عن دور فعال للجامع، وتجديد الخطاب الديني، لهذا تساءل النيهوم في أفكاره وكتبه عمّن سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟ فوجده «إسلام ضد الإسلام»، في بلاد الإسلام، حيث «الفرسان بلا معركة» وحيث «الذي يأتي ولا يأتي» وغيرها، وجميعها عناوين لكتب للنيهوم.
النيهوم الذي كتب رواية «القرود» والتي حاول إسقاط الكثير من الملامح، ومنها عن بعض الزعامات الكرتونية، والتي أغرق في وصفها، مما تسبب بمنعها في ليبيا، خشية تأويلها تأويلاً خاطئاً.
النيهوم المفكر المجدد الذي قال إن «الإسلام الذي ورثناه عن أسلافنا ليس هو الإسلام الذي بشر به القرآن، بل نسخة ناقصة عنه ومشوهة، صنعها الإقطاع على مقاسه». ويتناول النيهوم كيف تم الخلط بين الدين والتدين، رغم أن الأول هو الأصل والمصدر والثاني هو سلوك.
الحديث عن كتابات النيهوم وأفكاره، كان دائماً هاجس الرقيب، في حين كان النيهوم يتحدث فكراً، كان ينبغي الحديث معه بالفكر.
لم يكن النيهوم يسخر من علماء الدين، فما كان يعنيه هو ذلك الفقيه، الذي جعل لنفسه هالة من القداسة، ليجعل من نفسه معصوماً لا يجادل، فعالم الدين والإمام في فكر النيهوم ذو مكانة رفيعة حيث كان يرى للجامع دوراً مختلفاً.
قد يختلف بعضنا مع الصادق في هذا الطرح، وقد يتفق البعض الآخر، فالتفسيرات تختلف من زمن لآخر وهذه لحكمة يراها الله، ويجهلها الناس، فالطرح القائم عنده، قائم على أن ثمة فرقاً بين الجامع والمسجد من حيث المفهوم والمعنى.
كان للنيهوم منهج نقدي ورؤية نقدية، وفلسفة، ففكره الذي عاش جله مغترباً، بدأ بانتقاد الموروث الشعبي، مروراً بزمن الهزائم مع العدو، حيث كان يرى أن العدو في الداخل، وأن إسرائيل مجرد مشروع فاشل، يختفي وراء أساطير مزورة، إلى رحيله عن الوطن إلى هلسنكي، حيث حاضر في جامعاتها عن الدين المقارن والفكر الديني.
ما كتبه النيهوم من أفكار كان في الواقع بداية مشروع نهضوي تم إجهاضه، ولم يجد من يستثمره في الحرب على الإرهاب وتحصين الشباب من التطرف، فأفكار النيهوم التي كانت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، تسببت برحيله ليسكن بلاد الثلوج في هلسنكي، بعد أن لاحقته مضايقات النظام إثر بروز أفكاره وشهرته.
ما حذر منه النيهوم هو ما نحصد آثاره اليوم بتنوعه الإخواني والقاعدي والداعشي وكل التنظيمات الإرهابية.