مقالات مختارة

النموذج

سمير عطا الله

زيّن له أن في إمكانه شراء كل شيء على وجه الأرض بالمال. أرسل الحقائب لإثارة النعرات في أراضٍ لا يعرف عن قضاياها وأهلها وتاريخها شيئاً: من الفلبين إلى الجيش الجمهوري الآيرلندي. ومن حرب لبنان إلى حرب العراق. ودُعي لزيارة المملكة العربية السعودية، فوصل وهو يهتف مع بعض مرافقيه: ثورة ثورة. وضحك مستقبلوه وهم يصافحونه بأدب جم وخلق رفيع.
أراد أن يحل محل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة معاً. ومحل الرأسمالية والاشتراكية معاً. وأرسل الحقائب على أنواعها إلى حيث خطر له: مال إلى انتخابات فرنسا، ومتفجرات إلى طائراتها وطائرات أميركا المدنية. وتطلع من حوله، فأراد أن يضم إلى زعامته، مرة مصر ومرة السودان، ومرة المغرب، ومرة تونس. ولما رفضت مصر لجاجته، أعلن الحرب عليها.
لم ينس بؤس الخيمة التي نشأ فيها، فقرر أن يحمل خيمته الملونة إلى كل مكان، ظاناً أن العالم يضحك للفكرة إعجاباً. لم يشتر له المال الثوري شيئاً، فغضب على الجماهيريين، وأعلن نفسه ملكاً. ولم يتوقف لحظة عند أن قائد الجماهيرية هو نفسه ملك الملوك.
النهاية كانت مأساوية، وفيها جرم واضح. كان الرجل يستحق، على الأقل، محاكمة ولو غير عادلة، ما دام قد اعتقل. لكنه قتل في وحشية رهيبة من دون أن يقال من الذي أصدر الأمر بقتله أسيراً.
لم ينقذه المال. ولم يفده المال إلا في المهرجانات الملونة والصولجان الذهبي. لم يتغير حجم ليبيا السياسي بوصة واحدة. ولم تنضم مصر إلى زعامته ساعة واحدة. وحتى تونس، غير الميسورة، رفضت الأكياس والحقائب؛ لأن ثمة ما لا يشترى ولا يباع.
الذين يسيرون على خطاه، يجب أن يعيدوا قراءة التاريخ بدقة وعناية. حكمته في «المشروعية». مشروعية الطموح وطريقه وحدوده. ومشروعية الثروات وسبل صرفها. ومشروعية الحرص، قبل كل شيء، على بيتك وأهلك، فلا تغامر بهم ولا تعتبرهم مجرد رتق في ثوبك. صمت الليبيون أربعين عاماً، ثم تفجروا دفعة واحدة. قديمة جداً أمثولة المتنبي: إذا رأيت نيوب الليث بارزة. المال قد يشتري بعض الذمم، لكن ليس كلها. وقد يحقق بعض الطموحات، لكن الممكن منها. وكل كيل وما يسع. لا تحاول تغيير عادات الطبيعة ومقاييس الأشياء. السلمون هو السمك الوحيد الذي يصر على السباحة عكس التيار. يخوض معركة عاصفة في السباحة صعوداً. وعندما يصل، لا يرقص فرحاً، بل ينتحر. ربما ندماً على كل ذلك العبث: على أنه خدَّر نفسه بأشياء لا وجود لها.
لا يجوز العبث بأموال الدول، ولا بوقتها، ولا بهدوء حياتها. المغامر حرَّ ما دام لا يغامر إلا بنفسه. المغامرة بهناء العموم… بلاء عام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى