النفوذ الدولي في ليبيا ومعمودية الدم والنار
أبوالقاسم قزيط
ليبيا بلد صغير وكان عبر التاريخ مطمعاً للآخرين، وحتى في فترة النظام السابق الذي امتلك نفوذا إقليميا ملحوظا، وكان العقيد القذافي مرعبا حقا للأصدقاء والخصوم علي السواء ، وفي نهاية المطاف دفع ثمن تنمره_وربما نحن أيضا دفعنا ثمن ذلك ،_ وشطحاته التي لا تستند إلى قوة حقيقية.
اليوم كل الناس تقريبا في ليبيا مقتنعون أننا أصبحنا منطقة نفوذ لدول عديدة بعضها دول عظمى وبعضها دول قزمية تاريخا وجغرافية، لكن إجمالا تظل الدول الفاعلة هي الدول الكبرى اقتصاديا وعسكريا ، وإذا أرسينا هده المعادلة ، فمن من الواضح أن أكثر الدول التي لها نفوذ في ليبيا لأسباب متباينة هي الولايات المتحدة و روسيا وفرنسا وبريطانيا وربما بدرجة أقل ألمانيا وإيطاليا.
منطق الجيران أيضا له مفاعيله و هو ما يجعل مصر والجزائر من أكثر الدول تأثيرا في ليبيا وهذا جانب لا يمكن إغفاله، وفي كل الحالات هذه الدول تتكتل عادة في أحلاف بالمنطق الغربي أو صفوف بالمنطق الليبي، صف الغرب وتقوده الولايات المتحدة فيه تباينات مهمة ، وصف الروس ومعهم بعض الحلفاء الصغار .
ليبيا لم تخظع يوما إلى نفوذ روسيا والمنظومة الاشتراكية ، حتى عندما استباحت وتوطنت حاملات الأسطول الآمريكي (سرتوغا) و(امريكا) و (ال كورال سي) ، و (نميتز،) و ( فورستال ) في خليج السدرة وتحرشت بالعقيد المتنمر وأسقطت مقاتلات سلاح الجو الآمريكي ( f14 تومات كات) طائرات( السوخوي) الليبية وقصفت سرت بصواريخ (هاربون هارب) البحرية، لم يغامر القذافي بمنح الروس موطأ قدم في ليبيا ، حتى الإشاعة التي أطلقتها المخابرات الليبية القائلة بأن القذافي سيمنح قاعدة روسية في حي الصابري ببنغازي، علق عليها القذافي ساخرا مستخدما اغنية شعبية شهيرة عن الصابرين قائلا ( الصابري عمره ما دل الصابري عرجون الفل ) مش معقول أن نمنح قاعدة في عرجون الفل ، لكنة استدرك ، إذا تعرضنا الى تهديدٍ خطيرٍ من رونالد ريغان كل شيء ممكن ، لكنه لم يلجأ إلى تلك المقامرة حتى بعد قصف طرابلس وبنغازي عام 1986 بالمقاتلات العملاقة F111 .
القذافي الذئب يعي تماما أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 عندما حاول الاتحاد السوفيتي نشر وتركيب صواريخ نووية في كوبا ، كانت قادرة على الوصول إلى الولايات المتحدة ، هاج الوحش الأمريكي وأقفل المياه والأجواء الإقليمية وكان على وشك الحرب النووية ، استسلم الروس وفككوا منشآتهم وتراجعوا عن فكرة صواريخ في الخاصرة الأمريكية ، وكان المقابل غير المعلن هو سحب أمريكا لصوايخ جوبيتير من تركيا وإيطاليا ، الدرس العميق للأزمة الكوبية أن مناطق النفوذ الدولي تتجاوز الدولة الوطنية والسيادة على الأراضي.
روسيا بعد الاتحاد السوفيتي تقلص الكثير من نفوذها ولم تعد لاعبا رئيسا إلا على تخومها، وهي لاعب ثانوي إلى حد كبير عندما تبتعد عن محيطها الحيوي، لكن الولايات المتحدة لاعب رئيس في كل بقاع العالم ، فهي تناكف روسيا عن القرم في خاصرة روسيا ، و تعارض طموحات الصين في بحر الصين الجنوبي ، فلا جدال في تفوق أمريكا الساحق في كل شيء، لكن لعنة ما تتملك البيت الأبيض، وتجعله يعبث بقواعد الاستراتيجية الأمريكية التي تحكم السياسة الأمريكية، ربما تعيش أمريكا مخاضا جديدا لمبدأ يسمى كما هي العادة (مبدأ ترمب) لكنه هذة المرة فعلا (مبدأ العزلة ) وليس فهما خاطئا كما حصل مع الرئيس مونور، وتنكفي فيه الولايات المتحدة خلف بحر الظلمات وتكفر بأسرار التعميد المؤبدة.
المعارك التي جرت في ليبيا في أربعينيات القرن الماضي وانتصرت فيها قوات الحلفاء بقيادة البريطاني منتغمري على رومل ثعلب الصحراء وحلفائه الطليان لازالت هى الترسيمة التي تحكم النفوذ الدولي في ليبيا . الصراع في ليبيا طوال السنين هو غربي _ غربي ، لكن الكلمة العليا فيه للإنجليز والأمريكان لأنهم عمدوا هذه المنطقة من نفوذهم بالدم والنار
في ( يالطا السوفيتية) على البحر الأسود اجتمع العمالقة بمعاطفهم الثقيلة شتاء فبراير عام 1945 ، جلس روزفلت يتوسط الجميع يمينه تشرشل ويساره ستالين، وكان الرجلان في رقبتهم دين كبير لروزفلت ، فقد كان له القدح المعلى في الحرب العالمية الثانية ، فأمريكا هي من جعلت الساموراي يركع خوفا من الفناء النووي ، وجنرالها ايزنهاور هو من قاد حرب تحرير أوروبا، وأنقد بريطانيا من سقوط حتمي أمام رجال الفوهرر ، و أمريكا هي من كسرت ظهر الريخ الثالث بغاراتها الجحيمية على مدن ألمانيا وبناها التحتية والصناعية .
صحيح أن المنتصر الذي عمد ليبيا كمنطقة نفوذ بالنار والدم هم الإنجليز، لكنهم مديونون مديونية فادحة للأمريكان، لذلك هم يلعبون بقناعةٍ دور مساعدٍ للولايات المتحدة لا ند لها ، لأنهم فقدوا هذه الندية يوم توسل تشرشل لروزفلت أن ينقد بريطانيا من خطر النازية .
أميركا ابتعدت كثيرا عن الملف الليبي ، والأميركان باستمرار يعلنون أن هدفهم الأساسي في ليبيا هو حرب الإرهاب ، ثم استقرار البلد ، لكن مع رسو حاملة الطائرات الروسية المتهالكة كوزنتسوف في طبرق بتاريخ 11 يناير 2017 واستقبال المارشال حفتر والجنرال الناظوري على ظهرها، أسبوعا فقط وفي يوم 19 يناير ولأول مرة تنطلق قاذفة القنابل الشبحية (B2 سبيريت) وهي أقوى طائرة على الإطلاق تلامس تكلفة الواحدة منها فقط سقف المليار دولار ، وهي مجهزة حصرا لمهاجمة الاتحاد السوفيتي وقصفه بالقنابل النووية ، هذه القاذفة العملاقة قصفت تجمع صغير لفلول داعش في سرت مسلحين ببنادق آلية وسيارات دفع رباعي ( تويوتا سيراليون ) ، كان لأمريكا ألف خيار أسهل وأقل تكلفة ؟؟!!! ، ماذا أرادت أن تقول الولايات المتحدة بإرسال قاذفة رهيبة لا توجد قواعدها في خارج أمريكا تقطع ما يقرب من 20 ألف كيلومتر لقصف هدف تافه متاح قصفه لطائرة من دون طيار ، ( جميس ماتيس) كان يقول ببساطة هذه منطقة نفوذ معمدة بالدم والنار ، في تكرارٍ لموقف روزفلت في مؤتمر (يالطا ) حين رفض أي نفوذ روسي في ليبيا بل أنه همّ بمغادرة أحد اجتماعات يالطا احتجاجا على العرض غير المقبول من ستالين ، من ذاك التاريخ تاريخ رسو كوزنتسوف في طبرق بدأنا نسمع تصاريح شهرية بخصوص ليبيا من الجنرال ذي الأربع نجوم فارع القامة توماس ولد هاوزر حول ليبيا.
ليبيا استقلت لأن بركة الملك ادريس السنوسي جعلته يختار الإنجليز رغم أنهم كانوا مندحرين أمام الألمان، وهو أيضا أصبح ملكا لذلك السبب ربما ، ولأن ليبيا معمدة بالنسبة لهم بالدم والنار، لم يتركوها للملك بل وقع لهم أول رئيس وزراء (محمود المنتصر) على تواجد أمريكي في قاعدة الملاحة ( ويلس الجوية ) في طرابلس وآخر بريطاني في قاعدة جمال عبد الناصر( العدم ) في طبرق .
منطق الاستراتيجية يقول إن ليبيا منطقة نفوذ غربي ، صحيح أن القواعد أصبحت لا قيمة كبيرة لها في عهد الصواريخ الجوالة العابرة للقارات، لكن من المؤكد أن قواعد الجغرافيا السياسية تعمر مئات السنين، جارح ٌ للكرامة أن نكون منطقة نفوذٍ لغرباء، لكن نحن في عالم القوة ، وأوروبا بكل عظمتها وتاريخها لازالت تحت المظلة النووية الأمريكية.
أمام الكونغرس يصر هذا الأسبوع الجنرال ولد هاوزر قائد الافريكوم، أن الهدف الأساسي لهم في ليبيا هو منع النفوذ الروسي ، وهو أصبح هدفا يتقدم على أولوليتهم السابقة وهي الحرب على الإرهاب ، و قد يكون تقارب الفرقاء السياسيين وتحالفاتهم مع الروس الأميركان حاسمة في مستقبل ليبيا وفي مستقبلهم السياسي أيضا.