النخب والثورة*
جون هاغلي
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
لا يوجد تعريف متفق عليه للثورة يربط هذا المصطلح بحدث سياسي أو عملية سياسية محددة بوضوح. فهو يستخدم أحيانا ليعني تقريبا أي استيلاء غير انتظامي [دوري] irregular على السلطة، وإنما عن طريق القوة، يشمل ذلك عادة الانقلابات والانتفاضات المتقطعة التي تنشأ حين تكون النخب غير موحدة. أيضا يستخدم مصطلح “الثورة” عادة للدلالة على الحروب الأهلية وحروب التحرير المرتكزة على الانقسامات الدينية أو الجهوية أو الإثنية أو العشائرية dynastic . هذا الغموض في التعريف يجعل الحكم عما إذا كان نظام أو حركة أو صراع عنفي ما “ثوريا” مسألة ذاتية، وهو حكم يتم عادة عقب الفعل، مثلما حدث مع ما سميَّ الثورة الكوبية التي أسست لنظام كاسترو. عندما كان العصاة الذين يقودهم كاسترو يحاربون دكتاتورية باتيستا، كانوا يصورون أنفسهم على أنهم ليبراليون وشعبيون، وليس ثوريين، وكان هذا الفهم واسع الانتشار. فقط بعد سنة أو سنتين من الاستيلاء على السلطة وصف كاسترو وزملاؤه أنفسهم بأنهم “ثوار” وشاع تعبير ثورة كوبا على نطاق واسع. وبسبب عدم التفريق بين أنواع عدة من الاضطرابات العنيفة، افتقدت “الثورة” الدقة المطلوبة في مفهوم يمكن استخدامه بشكل جدي في نظرية النخبة السياسية. وأيا كان الأمر، فثمة نوع من الانتفاضات ذو ملامح تختلف موضوعيا عن الانقلابات والحروب الأهلية والانشقاقات والهبات الشعبية، وهي الاضطرابات التي تنشأ حينما تنهار فجأة وعلى نحو مأساوي سلطة حاكمة عادية متميزة في الغالب بقوات أمنية وعسكرية منضبطة. وخلال الفترة الانتقالية، التي تقصر أو تطول، يصبح الحفاظ على النظام في مواجهة الشغب والنهب مشكلة عويصة، إلى أن تستعاد سلطة الحكومة والمؤسستين العسكرية والأمنية، أو تبنى سلطة ومؤسسات جديدة من قبل إحدى الجماعات المنتصرة. لا يمكن القول أن نخبة من ضروب النخب الثلاث تتواجد خلال هذه الفترة الانتقالية. فالسلطة ترتبط، مثلما يقول الجذريون، “بالشعب” أو، بالأحرى، بالأشخاص الذين يجتمعون فورا، غالبا حاملين السلاح، ويستجيبون للدعاية المباشرة والبلاغة بأفعال جماهيرية. مثل هذه التجمعات تضم عادة كيانات من الجنود العاديين الذين إما تخلصوا من ضباطهم أو أنهم، ببساطة، تجاهلوا أوامرهم.
ومثلما لاحظ باريتو** بوضوح، فإن هذا النوع من الاضطراب يضم، في النهاية، جسما مختلفا جوهريا من الأشخاص إلى مرتبة النخبة، وهذا يحدث تغييرات عميقة في المؤسسات السياسية وعلى وجه الخصوص في المؤسسات الاقتصادية. إلا أنه قبل أن تصبح هذه التبدلات الجارفة واضحة، ومهما كانت محاولات استعادة أو إعادة بناء مثيل لسلطة منظمة في المجالات التي انهارت فيها سلطة الحكومة، فإن هذه المحاولات عادة ما تتعرض إلى هجوم من المواقع التي لم يمتد إليها تأثير انهيار الحكومة. وللنجاة من هذا الهجوم، فإن على المنظمين الجدد أن يخلقوا على وجه السرعة درجة من المركزية الإدارية مصحوبة بوحدات أمنية وعسكرية منضبطة. عاجلا أو آجلا، فإن التجمعات الشعبية التي تكونت ستتم مراقبتها وقمعها. عندما يحدث هذا، يمكن للمراقب الحديثُ مجددا عن نظام [سياسي] يدار من قبل نخبة من نوع أو آخر. في الاضطرابات الإنجليزية والفرنسية في 1642- 1645 و 1789- 1749، على التوالي، تشتت النخبة مرة أخرى. بيد أنه في الاضطرابات الروسية 1917- 1921، توحدت النخبة آيديولوجيا نتيجة انتصار المنظمة البلشفية المحكمة والتلاحم العقائدي إبان الاضطراب. إذا ما أشار مصطلح الثورة”، لأغراض التنظيم المفهومي والاتساق المصطلحي، فقط إلى الاضطراب المؤدي إلى انهيار سلطة الحكومة والفاصل الزمني الناشئ بعده، حين تتموقع سلطة متلاحمة في التجمعات الشعبية الناشئة، فإن هذا حدث غير مرجح ونادر. الثورة بهذا المعنى يحتمل أن تحدث فقط في المجتمعات ذات التطور الاقتصادي المتدني، أي المجتمعات التي يغلب عليها الطابع الزراعي أو الفلاحي. أما في المجتمعات الأكثر بيروقراطية وذات مستويات تطور عالية فإن الانهيار الواسع لسلطة الحكومة وقوات الأمن والجيش النظامية يبدو أنه يحظى بترحيب اليوم أكثر مما كان عليه الأمر عندما كان مؤيدو الثورة يعتمدون، خطأ في معظم الأحيان، على أن أعدادا كبيرة من المواطنين الجنود يرتدَّون على الحكومات عقب صعوبات وهزائم في حروب واسعة النطاق. أكثر من ذلك، فإن تطور التكنولوجيا العسكرية، خاصة الأسلحة النووية، قد تجعل الحروب التي تخاض من قبل جيوش كبيرة أمرا طواه التاريخ.
وبغض النظر عما إذا كان ما زال محتملا وقوع الثورات، فهل الثورات بالمعنى الحالي للمصطلح تجلب تحسنات سياسية؟. من وجهة نظر المعايير الليبرالية والديموقراطية، ستكون الإجابة “لا” قاطعة. لأن الثورات، بسبب ما تخلقه من عداوات ساخنة وندوب سياسية، لا تكوِّن نخبا موحدة متجانسة. فتبعاتها إما نخب غير موحدة أو موحدة آيديولوجيا، وفي الحالتين كلتيهما تكون غير متوائمة مع الممارسات الديموقراطية المعول عليها. وعلى الرغم من أنه قد سُمع الكثير من أشخاص ناقمين على ما يرونه أعطابا أخلاقية في الأنظمة السياسية المعاصرة، ليس أقلها الديموقراطيات الغربية، فإن التغييرات الثورية الجارفة التي يطالب بها هؤلاء الأشخاص تقع بعيدا خلف ما تصوره نظرية النخبة كإمكان. إنها مجرد أحلام وتفكير رغبي تعتبره وجهة النظر اللبرالية والديموقراطية حمقا بالغا.
* فصل مستل من: نظرية النخبة في علم الاجتماع السياسي Elite Theory in Political Sociology
** لم نثبت الإحالات المرجعية التي وضعها الكاتب.