الميليشيات هي الكارثة وليست الأمونيا
سالم العوكلي
كثيرا ما كتبت عن عدم أخلاقية تحويل الكوارث الإنسانية المؤلمة إلى أوراق سياسية، وحدث هذا مرارا حتى على صعيد القوى الكبرى مع وباء كورونا المستجد التي وظفت هذه الجائحة لصراعات سياسية واقتصادية وأيديولوجية قديمة رغم الألم والخوف الذي تعيشه البشرية جمعاء من هذا الوباء. أما حين تقوم جهة مختصة أو صاحب منصب يتحمل مسؤولية منصبه العلمية والأخلاقية بنوع من التظليل الذي ينشر الذعر بين الناس لخدمة أجندة سياسية فهذا يعرضه لأن يكون تحت طائلة القانون وعرضة للمحاكمة، وأتمنى من المختصين والقانونيين الليبيين أن يلتفتوا إلى هذه الظواهر الخطيرة وتسجيل دعاوى ضدها لتأخذ مسارها القانوني طال الزمان أو قصر، لأن مثل هذه القضايا الخطيرة التي تنشر الفزع وفق معلومات خاطئة ومحرفة لا تسقط بالتقادم.
بشكل لا أخلاقي، يستغل السيد مصطفى صنع الله رئيس مجلس إدارة مؤسسة النفط الليبية، كارثة بيروت كورقة سياسية لخدمة الميليشيات والمرتزقة التي يعمل تحت سلطتها، ويمارس تدجيلا وتضليلا للرأي العام الليبي حين يحذر من كارثة في مرسى البريقة بسبب مخزون غاز الأمونيا. وأتحدث هنا بصفتي مهندس تربة ومياه ، وباعتبار مخزونات الأمونيا التي تحدث عنها صنع الله تدخل في صناعة سماد اليوريا، وحيث كانت دراسة الأسمدة ضمن اختصاصي الأصيل. ولن أتحدث عن مخزونات رأس لا نوف لأني لا أعرف عنها في الواقع. وحتى لو كانت حقيقة فإنها في هذا السياق وهذا التوقيت حق أريد بها باطلا.
ويختلف غاز الأمونيا الذي نسميه (غاز النشادر)، وينتجه الجسم أثناء تحليل المواد العضوية خلال عمليات الأيض المهمة، تختلف كليا عن نترات الأمونيا التي تسببت في كارثة بيروت كما تسببت تاريخيا في كوارث مثل ما حدث في لودفيغسهافن الألمانية سنة 1921. وفاجعة مدينة تكساس بميناء تكساس سنة 1947 وفي مدينة تولوز الفرنسية سنة 2001، وانفجارات تيانجين 2015 ،وكلها بسبب مخزونات من نترات الأمونيوم كمركب يستخدم بشكل أساسي في صناعة المتفجرات التي كانت تستخدم في المناجم وبعض الإنشاءات الهندسية، قبل أن تصبح سلعة مهمة في موانئ الدول التي تحكمها الميليشيات الخارجة عن القانون، وتعمد العديد من الدول مؤخراً على التقليل التدريجي من استخدام نترات الأمونيوم ضمن التطبيقات الاستهلاكية نظراً لخطورة التعامل مع هذه المادة ولاحتمالية إساءة استخدامها.
أما غاز الأمونيا فهو سريع التبخر، وأخف من الهواء ما يجعله يصعد عموديا في حالة لو حدث تسرب أو انفجار في خزاناته، ما يجعله يستخدم في مواد تنظيف الزجاج حيث تتبخر بسرعة ولا تترك أثرا. ولو تم التسرب في مكان مغلق به بشر فأقصى ما يسببه حساسية للجهاز التنفسي وحرقة في العيون مع سعال، وهو أعراض أقل بكثير مما تسببه القنابل المسيلة للدموع التي تفجر وسط الحشود في المظاهرات.
وهذا الجانب الآمن ما يجعل هذا الغاز مستخدما في كثير من الصناعات اللصيقة بالجسد الإنساني مثل صبغات الأقمشة وصبغات الشعر، كما يُستخدم كمنظّف للقطن، ويدخل في العديد من الصناعات البلاستيكية وفي صناعة بعض الأدوية والفيتامينات،، كما يستخدم في غاز أجهزة التبريد. والغرض منه في الحالة الليبية هو تحبيب الغاز عبر تحويله إلى سماد اليوريا أو إسالته وتصديره كأمونيا سائلة تدخل في عديد الصناعات ومن ضمنها الأسمدة النتروجينية.
ولم يسبق أن تسبب غاز الأمونيا الذي تستخدمه كل الدول في صناعة السماد في أي كارثة، ولم يصدر أي تحذير منه عن طريق الجهات العالمية المختصة.
وضمن حالة الفوبيا من الجيش والعسكر المصاب بها جماعة الأخوان كوسواس قهري يحيل التقرير المضلل هذه الخطورة إلى ما سماه (عسكرة) المواقع النفطية، رغم أنه لم يحذر من الكارثة المتوهمة حين كانت تسيطر على المنشآت النفطية ميليشيا مسلحة تتلقى الرشوة من الحكومة في طرابلس مقابل كل شحنة تفرج عنها، ولم يحذر منه عندما كانت جماعة أنصار الشريعة والقاعدة التي تسمي نفسها (سرايا الدفاع عن بنغازي المدعومة من مفتي الديار وحكومة الوفاق) تهاجم وتقصف هذه المؤسسات والخزانات في الهلال النفطي وتحرق المستودعات. والإيجابي في هذه الجزئية أن مصطلح (عسكرة) يدل على أن مؤسسة عسكرية مدربة وليست ميليشيات هاوية مثل العصابات المسلحة التي تتاجر في كل شيء وتكدس السلاح في وسط التجمعات السكانية في طرابلس وقرب مقر مؤسسة النفط، وهذا ما ينذر بكارثة حقيقية، وكل حملة السلاح من المرتزقة المعلن عنهم رسميا وبالأرقام بل وعبر مجيئهم بالاتفاقيات، ولا دليل واحد على أن ثمة مرتزق في المنشآت النفطية في الهلال النفطي ــ غير أن هذا يأتي ضمن مرض نفسي يتعلق بالإسقاط، وهو أن تتهم الآخرين بما تعاني منه أنت، مثلما اتهم القذافي المتظاهرين في الميادين بداية فبراير بأنهم يتعاطون الحبوب المهلوسة التي كان يتعاطاها وكتائبه في ذلك الوقت. وحديث صنع الله عن المرتزقة يأتي في سياق التظليل الذي يقارن به مخزون الأمونيا القابع في الصحراء بمخازن نترات الأمونيوم الذي تخزنه الميليشيات اللبنانية في قلب العاصمة بيروت، ودون علم الجيش اللبناني أو عدم قدرته على التدخل بسبب تغول الميليشيات في لبنان التي تقيم دويلات تابعة لقوى خارجية داخل الدولة . لذلك فالتحذير الحقيقي الآن وغدا ومستقبلا وإلى الأبد من كارثة دولة الميليشيات التي تُبنى في ظل حكومة السراج المعترف بها دوليا.
أما الخسائر الاقتصادية جراء قفل المصانع فهي حقيقية وفق الأرقام، لكن صيرورة هذه الأرقام هي التي تجعلها غير حقيقية، لأن صادرات هذه المصانع ستذهب إلى المصرف المركزي بطرابلس، وتلقائيا ستذهب لمزيد من تجنيد المرتزقة السوريين والمتطرفين من كل الجنسيات التي تجلبهم السفن والطائرات التركية إلى ليبيا، وتذهب إلى تسليحهم بترسانة من الأسلحة ستتحول يوما إلى كارثة حقيقية على ليبيا حين تستقل جماعات من هذه المرتزقة بقياداتها وأجنداتها داخل الأراضي الليبية، مثلما حصل معها في سوريا وحاربت جيش النظام والجيش الحر في الوقت نفسه من أجل أجندة تركيا، أو من أجل أيديولوجيتها المتطرقة، ولا أعتقد أن صنع الله غافل عن هذه المخاطر لكن يبدو أنه مغلوب على أمره ويقول ما يملى عليه.
من جانب ثالث، وهذا مجرد تخمين، ربما يأتي هذا التحذير وكأنه مقدمة لعمل عسكري أو قصف تركي للمنشآت النفطية، وإذا ما حدثت كارثة ستحال إلى غاز الأمونيا البريء، خصوصا أن تركيا استخدمت في حربها على الأكراد في سوريا والعراق أسلحة محرمة دوليا أدت إلى كوارث إنسانية. كالفوسفور والنابالم الحارق التي فعلا من الممكن أن تسبب كارثة أكبر من كارثة بيروت . “فقد ذكرت وسائل إعلام بريطانية وأمريكية أن التدخل التركي في شمالي سوريا فاقم الأزمة الإنسانية التي يعيشها المدنيون، خاصة مع استخدام القوات التركية أسلحة محرمة دولياً من بينها الفسفور الأبيض، واستهداف المستشفيات والمراكز الطبية” وفق موقع العين الإخباري. وقالت سونيا خوش، المسؤول بمنظمة “أنقذوا الأطفال” : “استقبل أحد المستشفيات الكردية السورية في تل تمر طفلاً من شدة صراخه، نتيجة الحروق المصاب بها جسده، حيث أصيب الطاقم الطبي بصمت تام.”. وهذا ما ينبئ فعلا بكارثة أكبر من كارثة بيروت إذا ما قصفت تركيا عبر بوارجها القريبة أو قواعدها في الغرب الليبي مناطق راس لانوف و البريقة الآهلتين كما فعلت في شمالي شرق سوريا.
وكان حري بصنع الله أن يحذر جميع الأطراف المتحاربة من استهداف هذه المواقع، بدل أن يقتصر تحذيره لمن يحرسون هذه المنشآت منذ تحريرها من ميليشيا جضران وسرايا الدفاع عن بنغازي، ويصف هؤلاء الحراس الليبيون الذين ضحى بعض رفاقهم بأرواحهم دفاعا عنها بكونهم مرتزقة دون أن يحترم عائلاتهم وأسرهم وأمهاتهم القلقات عليهم طوال الوقت.