المهدي الحاراتي .. بطل اليائسين
تام حسين
ترجمة خاصة عن صحيفة EUobserver
(الجزء الأول)
وأنا أجلس مقابلا مهدي الحاراتي بردهة الفندق، كان صعبا عليَّ معرفة لماذا يرغب أي شخص في موت هذا الرجل الليبي الهاديء. كانت علبة الأنسولين تستقر على المنضدة الخفيضة بحذاء قهوته الخالية المرة ومعه طبيبه الحامي وصديقه. لكنك تحتاج إلى نظر أكثر قربا، فهناك قبعته العسكرية ذات العلامة التجارية التي يرتديها حتى في الردهة مع نظرات شمسية من ذلك النوع الذي يرتديه جنود ألعاب الفيديو في صحراء حمص.
كمّاه مثنيان إلى أعلى لتظهر ساعة هاردي. ثمة أيضا بنطلونه الكاكي وحذاؤه ذو العنق الملمع بحرص شديد. كان يبدو مثل كولونيل متقاعد لا يستطيع ترك عاداته. ويبدو أن هذه علامات توحي كما لو أن ثمة شخص آخر يقيم داخل فجوة في هذا الرجل الليبي اللطيف.
أينبغي على ذلك الشخص خلال صحوه من نعاسه (لا أعتقد أن الحاراتي سيتوقف عن الانشغال بالسباك الذي سيأتي إلى شقته وسيطير عبر العراق وغزة ومصر وليبيا وسوريا مثل أي سوبر ماريو مجنون) أن يطارد ذلك العالم المرواغ الموعود من قبل الربيع العربي. في هذا المزاج الحاراتي داعم القوة، فهو يقاتل، يطيح بالدكتاتوريين، يفتح المدن ويكوّن كتائب مقاتلة. وبهذه القوة التي هو عليها يعتبر مجسدا للفوضى. لذا صنفه السعوديون على أنه إرهابي على غرار الأسد وحزب الله والفصائل المناصرة للقذافي، وملكيات الخليج تفضل أن يكون شهيدا على أن يكون مقيما معي في فندق بمالطا.
ورغم ذلك يعتقد البعض أنه ما من أحد، على الإطلاق، يريد قتله، فهذه مجرد تهمة قديمة في طواحين الهواء ونشاط صناعة الأسطورة يماثل النسخة الليبية حول جوزبي غاريبالدي. إنه من الصعب تبين ما إذا كان مدركا تماما لما يفعله. فهو مثل القومي الإيطالي، لديه شيء من السذاجة. إنه رجل يرسل إليك وجوها تعبيرية في الصباح مع صورة تلميذة جميلة تقول لك: “نعم، سيدي!” ومع ذلك يقول عنه تقرير بصحيفة مالطا اليوم تابع تورطه في هجوم بالسكين، أنه طلب حذف اسمه في المحكمة “نتيجة توقع إعادة اتهامه في طرابلس”. ومع ذلك، ولإدراكه لدور الإعلام لا يسارع بإطلاق تغريدات، أو إدراجات على الفيسبوك وما إلى ذلك، كما أنه لا يقبل إجراء مقابلات صحفية مع من هب ودب. وافق على إجرائي مقابلة معه بناء على تزكية من صديق.
إجراء مقابلة مع الحاراتي قد يكون مماثلا للشعور بعدم الارتياح الذي كان لدى الصحفي سبنسر أكرمان وهو يقابل الجنرال ديفد بترايوس: فثمة عنصر من متلازمة ستوكهولم. مضيت بِنية ألا أكون مساهما في إدامة الأسطورة. لكن ذلك بدا كما لو كان لقاء خصومة بين أوليسيس والسيرانة التي لا تغني وتبدو كائنا فظا. الحاراتي يجعلك طرفا في مناخ حميم من خلال قبلات الصداقة على الخد والقهوة التي يقدمها إليك بيديه شخصيا والمكالمة الهاتفية التي يطمئن فيها على عودتك سالما إلى فندقك ويعطيك إحساسا بأنه مستعد للتضحية بحياته من أجلك. ذلك يجردك من أسلحتك. في سلوكه تجد كل المزايا التي قرأت عنها في كتب الأدب العربي بخصوص المحاسن الجوهرية للإستقراطي العربي، وما هو أسوأ أنه يقوم بذلك تلقائيا دون أي تصنع.
صحفي غربي ساخر قد يشطب عليه وعلى معارضيه أيضا لنفس الغرض، ومع ذلك فثمة شيء ما من غاريبالدي في الحاراتي. ألم يقاتل غاريبالدي مع ذوي القمصان الحمر في أمريكا الجنوبية، ويغزُ سيشيليا، ويوقف فرنسا النابليونية في روما لمدة ثلاثة أشهر وتلتقط له صورة ثم يعود إلى جزيرته مع كيس بطاطا؟.
مع فارق أن غاريبالدي عاش، بالطبع، في عصر كانت فيه تقاليد البطولة مازالت حية وكان لديه مسرح يؤدي عليه بطولاته، بينما لا يثير الحاراتي اهتمامنا لأننا لم نعد، إلى هذا الحد أو ذاك، مبالين بذلك التقليد.
إلا أنه بالنسبة للكثيرين من العرب والليبيين فإن لأمثال الحاراتي أهمية بالغة. لذا فإن ما يبدو للغربيين شحنا من قبل القائد لنفسه بنفسه بواسطة طاحونة هوائية متخيلة مليئة بالادعاء، لا ينظر إليه على نفس النحو في يوميات مالطا. وأنا أصحبه في الممشى دعاه مواطنوه إلى شرب القهوة، وتم التصافح والتربيت على الصدور. فلدى هؤلاء الرجال مازالت بطولات ماضيهم الليبي والإسلامي حية. لهذا السبب يقف العديدون للحاراتي لما يمر بهم في تبجيل واحترام. كما أن هذا أحد الأسباب الذي يجعله يحقق مآثره، لأن ثمة رجالا يعيشون قصيدة ملحمية بطولية اليوم وفي هذا العصر.
مثله مثل غاريبالدي، ينتمي الحاراتي إلى بيت شهير، فهو من الأشراف وهو يدرك ذلك من خلال واقع أنه غالبا ما يشير إلى نفسه بضمير الغائب. والأشراف عائلات تربط نسبها بالتاريخ الإسلامي وأنهم أدخلوا أو أداموا العقيدة وأنهم ينحدرون من سلالة الرسول. في الماضي كانت هذه العائلات الشريفة مثل عائلات ميديتشي وبرجياس ولكن بدون غرائزها الإجرامية، ومن المتوقع منهم القيام بدور القيادة في المجالين الدنيوي والديني، فلديهم مسؤوليات اجتماعية ويتحلون بسلوك مهذب وكانوا رعاة للفن. ورغم أن هذه العائلات تبعد نفسها عن الحداثة، فهي مازالت تلعب دورا مهما في حراك الشرق الأوسط ومن المثير أن عديد الليبيين يصفون القذافي بأنه ينحدر من جماعة فقيرة، وتدرجت أوصافه من أنه ذو أصل بدوي فظ إلى كونه ابنا لغجري إلى كونه ابنا أيضا لمومس من أب إيطالي. إن مصطلح ابن الحلال مازال رنانا في الثقافة العربية. لذا فإن أصداء هذه المسؤولية مازالت مرتبطة اليوم بمشاعر بعض عائلات الأشراف. التزم الحاراتي بهذه المسؤولية لأن أسرته تنظر إلى هذا الأمر بجدية. في الحقيقة هم عارضوا القذافي، ففي سنة 1981 انتهى عمه محمد مع سبعة عشر آخرين من أسرته إلى سجن يناظر سجن الباستيل، سجن بوسليم سيء الصيت، الذي وصف بشكل مؤثر جدا من قبل هشام مطر في روايته “العودة”
كان على الحاراتي نفسه الفرار إلى القاهرة المغبرة مع أخوته وأمه حينما هدد القذافي بالقيام بغربلة أخرى سنة 1989. في عمر الرابعة عشر حاول الالتحاق بالأزهر، الذي يعد واحدا من أقدم المؤسسات العلمية الدينية الإسلامية، إلا أن أجهزة الأمن المصرية المتعاونة مع أجهزة الأمن الليبية زجت به في حافلة. قضى تقريبا خمس سنوات من سني يفاعته وهو يتعرض للإذلال والنهر والضرب والنقل من سجن إلى آخر غالبا ورأسه محشور في كيس. كان المنتصرون أولئك الذين لم تكسر معنوياتهم. ورغم ذلك فقد استغل، على نحو ما، الوقت لحفظ القرآن بكامله، وهذا رفع من شأنه مرة أخرى في عيون الليبيين والمسلمين. فكونه حافظا للقرآن يجعل منه شخصا مقربا من الله وبالتالي لدى المسلمين ومن المؤكد أن يدفع به إلى أن يؤمَّ المصلين، وعليه واجب تعليم الآخرين تجويد القرآن وأن يكون قدوة بين المسلمين.
الحاراتي متحفظ بشأن كيفية هروبه من مصر، إلا أنه وصل دبلن سنة 1996. وبغض النظر عن الطقس الكئيب، فإنه أحب آيرلندا لأنه كان يستطيع أن يكون ما يريد أن يكون عليه. لم يكن ثمة داع للقلق من تلك الطرقات على الباب عند منتصف الليل. تزوج، أصبح أبا، قلبه الذي تقسَّى بفعل وحشية السجن رق بفعل أصوات أبنائه. إلا أن الحاراتي لم ينسَ أبدا تلك السنين الصعبة، فاستمر في إحياء وتنمية علاقاته بالشتات الليبي.
ورغم أنه لم يرتبط بأي حزب سياسي إلا أنه كان إسلاميا بعمق. إذا ما كانت رؤية غاريبالدي السياسية قد عُدلت من قبل ماتزيني في البندقية، فإن رؤية الحاراتي السياسية لُطفت بالتجربة السياسية الآيرلندية، التي هي بدون شك واحدة من المعاناة العظيمة المشربة بروح الشعراء.
المقالات المترجمة المنشورة على 218TV لا تُمثّل وجهة نظر المؤسسة ولا تتحمل أي مسؤولية قانونية تجاه إعادة نشرها