المكتبة (19)
نخصص هذه المساحة الأسبوعية، كل يوم أحد، للحديث عن العلاقة بين المبدع وكتبه، والقراءة، والموسيقى.
محمد عبدالله الترهوني: كاتب وناقد، مواليد بنغازي (1964).
صدر له: (العقلية العربية بين ماضوية التأسيس وحداثة البناء- منشورات مكتبة قورينا_ بنغازي-1996)، (الكتابة بالأشياء- منشورات مجلس الثقافة العام- بنغازي ـ 2008 )، (تاء مربوطة -الدار العربية للعلوم- بيروت ـ 2012 )، (الأيدي الحزينة – منشورات دار البيان- بنغازي ـ 2020 )، (اعترافات دانتي- منشورات دار البيان- بنغازي ـ 2020).
ـ ما الذي جاء بكَ إلى عالم الكتابة؟
ـ هل يمكن لأي كاتب أن يجد إجابةً كاملةً، وشاملة عن هذا السؤال؟ لا أعتقدُ ذلكَ. فهناك طرق مختصرة للإجابة عن هذا السؤال المُعقّد؛ هذه الطرق تجعلنا نشعر بالراحة، ونحن نقدم كلمات موضوعية وبعيدة عن القضايا الشخصية، لو قلت مثلاً: لأنني أريد إضافة شيء جديد لهذا العالم، ستكون هذه الإجابة جيدة لكنها لا تخلّو من المبالغة، والادعاء. بالنسبة لي لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون العودة إلى الطفولة الباهظة التي عشتها، إلى أمي التي علمتني الدهشة والشفقة وقراءة الكتب، إلى حي الصابري الذي أعتبره مثل جائزة، أو المكافأة في حياتي، لقد جعل هذا الحي حواسي مستيقظة بكل ما فيهِ من وحشية ورقة مُفرطة بشكل رهيب، ولكن يمكن القول إن القراءة في سِنّ مبكرة هي ما جاء بي إلى عالم الكتابة. دائمًا كان هناك كتاب بين يدي وبعد فترة طويلة جدًا وجدت أن هناك كتابًا في رأسي يريد الخروج ليكون مرئيًا، لكن الدافع الحقيقي لخروج هذا الكتب على الورق هو الحزن، الحزن الذي ليس له أي سببٍ سوى حالة البحث عن معنى.
ـ ما الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
ـ وأنا صغير كانت كل الكتب ساحرة ومدهشة، كل الكتب تقدم لي نوع من المعرفة العظيمة عن نفسي وعن العالم، لكن مع مرور الوقت أصبح أمام كل كتاب تحدياً كبيرا، هذا التحدي هو قدرتهُ على إبهاري ومقدار المتعة التي يمكن أن يقدمها لي أثناء القراءة. أتذكر الآن تلك الصدمة التي شعرت بها في سنوات المراهقة، وأنا أقرأ دون كيخوت لسرفانتس، واللامنتمي لكولن ولسن والجريمة والعقاب لدوستويفسكي، والشيخ والبحر لهمنغواي. هذه الكتب تعلمت منها، وبشكل رائع في سن مبكرة جدًا معنى خلود الكلمة المكتوبة ومعنى قدرتها على ترتيب الحزن، وتعلّمت منها أنكَ من خلال الكتابة عن فظاظة الحياة فإنكَ وببساطة تقول لها: أنا مازلت أحبك.
ـ أول كتاب قرأته؟
ـ لن تكون طفلاً من الصابري إذا لم تعرف المعاناة والنداءات الحميمة والأدعية الممزوجة بالحنين الصوفي. في الصابري هناك البحر والزاوية الصوفية، في البحر تغرق في نيران متوحشة وفي الزاوية الصوفية تغرق في ومضات غامضة ومحيرة، في البحر تتعلم كيف تكون وحشًا وفي الزاوية الصوفية تتعلم كيف تكون وحشًا بقلب طيب، ذهبت إلى الزاوية وأنا أقرأ المغامرين الخمسة والشياطين 13، لكن الشيخ الديمقراطي بطريقة جميلة وعادلة نصحنا بقراءة العبرات للمنفلوطي، هذا أول كتاب طلبتهُ من والدي بشكل مباشر، هذا هو أول كتاب حقيقي عرفت من خلاله معنى النظر إلى البقع الداخلية.
ـ الكتاب الذي تقرأه الآن؟
ـ الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة الإمبريالية.. تأليف شلدون واتس وترجمة أحمد محمود عبدالجواد.
ـ الموسيقى المفضلة لديك؟
ـ موسيقى الجاز،لأنها موسيقى المحبطين والمصابين بخيبة الأمل، موسيقى مقاومة الانتهاك اليومي لكرامة الإنسان، لقد ظهرت هذه الموسيقى في عالم خالي من العدالة الإنسانية والعقل، وأخذت مكانها كنوع من المقاومة في عالم يعيش على بقايا ثقافة محتضرة.
ـ علاقتك بمؤلفاتك؟
ـ في مؤلفاتي كل ما كان سببًا في فرحي ودهشتي وبؤسي، وفيها حياة لم أتمكن من عيشها، وكلمات لم أتمكن من قولها، فيها تعديل لكل شيء حاولت تعديله وفشلت في ذلك ألف مرة، فيها تكرار حميم لأخطائي التي لا شفاء منها، وفيها المعنى الأكثر تعقيدًا لحياتي وشخصيتي وهويتي، وفيها اخترع نفسي المرة بعد المرة. لهذا علاقتي بمؤلفاتي هي في الحقيقة علاقتي بنفسي.
ـ هل ستغير الكتابة العالم؟
ـ هذا سؤال مراوغ، سؤال يسبق ويتخطى ويتجاوز الإجابة عنهُ. الكتابة قد تغير العالم إذا نظرنا إلى ما تقوله كحقيقة متطرفة فيها الكثير من الشائعات حول فشلها في القيام بذلك، من وجهة نظري الكتابة هي؛ صوت الرنين الخافت والجميل لتلك الدعوة التي نحن بصدد الحديث عنها، كل الأدب هو دعوة لتغيير العالم بصوت ضعيف، ولأن هذا الصوت ضعيف فإن تقدم الكتابة نحو هدفها بطيء بشكل مرعب، وهذا ما يجعلنا نشعر بالسوء الإيجابي تجاه الكتابة، وهو ما يُبعد شبح أن تكون الكتابة مجرد عزاء زائف لمحاولة تغيير العالم، ولكي نكون صادقين مع أنفسنا يجب القول إن العالم في كثير من الأحيان هو من يغير الكتابة، وجعلها مع الوقت بعيدة عن التزامات ومتطلبات الحياة العامة. العالم عدو قوي وقادر على جعل الكتابة تدخل في دوار عدمي يفصلها عن نفسها، لهذا يرتجف كل كاتب حقيقي، بل ويشعر بالألم الذي يقترب من اليأس عندما يفكر في كلمة جدوى.
ـ ماذا تحتوي مكتبتك؟
ـ لدي مكتبة كبيرة جدًا جمعتها عبر سنين طويلة ومن عواصم كثيرة، وربما هي أكبر إنجازاتي على الإطلاق.
ـ ما الذي يشغلك اليوم؟
ـ ليبيا هي ما يشغلني في كل لحظة من لحظات حياتي.