المعايدة بعد العصيدة
فرج عبدالسلام
وكأنه مقدّرٌ على الليبيين أن يخوض بهم شيوخُ الطوائف الذين رهنوا عقولهم عند آخرين في أوطان بعيدة، معركةً عبثية بعد أخرى. ولأنّ اهتمامات هؤلاء الشيوخ والقضايا التي تشغلهم أبعد ما تكون عن اهتمامات الناس وقضاياهم اليومية المُلحّة، فهم في عيون معظم الليبيين، وكأنهم أتوا من كوكب مغاير، حيث لا تعنيهم من قريبٍ أو بعيد معاناة الناس اليومية، ولا يكترثون تغوّلُ المليشيات التي تسرحُ وتمرح في طول البلاد وعرضها، فتعيث فسادا حيثما حلّت، ولا قضية إنسانية خطيرة كاغتصاب النساء على الملأ، مثل تلك التي عرفت باسم “عندكم ولايا” التي لم تُحرّك فيهم ساكنا، ولا يكترثون حتى بحدود البلاد المخرومة من كافة الجهات، فصار الوطنُ مطيّةً لكل من هبّ ودبّ يعيثون فيه فسادا سيصعُب إصلاحه في المستقبل القريب أو البعيد، وكذلك لا يهمّهم تدخّل الدول الأجنبية التي لا تنشد إلاّ مصالحها، وتخوضُ صراعات حول من منها لها اليد الطولى والتأثير الأكبر في هذه البلاد المنكوبة، وكذلك ليسوا معنيين بهؤلاء الذين يسمون أنفسَهم بالسياسيين، الذين أتوا في لحظة غفلة، فامتطوا ظهر الوطن، وساهموا في إذكاء نار الفتنة والشقاق سعيا وراء مصالحهم المادية والمعنوية.
كل ما ذُكر سابقا وأكثر، لا يُحرّك فيهم ساكنا، فهذه في نظرهم مسائل دنيوية، بينما هم معنيّون بشؤون الآخرة، ومكلّفون من قبل السماء، بترشيد هذا الشعب الجاهل بشؤون دينه (حسب رؤيتهم) إلى ما يجب أن يفعل أو لا يفعل…
فبعد أن مرت مناسبةُ العصيدة وحروبُها التي ابتدعوها، بسلام “نسبي”، يخرجون علينا هذه الأيام بقضية يرونها بالغة الخطورة، وهي تحريم معايدة المسيحيين بعيدي الميلاد ورأس السنة… ويتوعدون من يفعل ذلك بالويل والثبور، بل ويصِل بعضهم، إلى تخوم منطقة التكفير، وما يستتبعه من إجراءاتٍ في الدنيا وعذابٍ أخروي..
أفاد صديقٌ لي مُعلقا على خطبة الجمعة الفائتة، بأنها كانت كارثية بمعنى الكلمة، فقد صبَ الإمامُ جام غضبه على المسيحيين ومن يجاملهم أويهنئهم بعيد الميلاد، أو رأس السنة. وينسى إمامُ الفرقةِ والفتنةِ هذا كل رسائل السلام والمحبة والإنسانية التي يُفترض أن يدعو إليها الدين، كما ينسى أو يتناسى أنّ هناك مواطنين من ديانات أخرى يشكلون نسبة كبيرة من أهل البلاد العربية والإسلامية، يتمتعون بالأهلية، ولهم حقوقهم وأعيادهم الدينية. إن ما يقوم به هؤلاء الأئمة الموتورون لا يخرج عن نطاق زرعِ بذور الفتنة والشقاق، وإذكاء نار التطرف والجهل، ولم يمض وقتٌ طويل على الجريمة البشعة التي يجب أن يخجل منها كل مسلم، عندما قتل أولئك المجرمون الذين تجردوا من كل القيم، سائحتين أوروبيتين في جبال أطلس بالمغرب، بل وقطعوا رأسيهما بوحشية ادّعوا أنهم استلهموها من تعاليم الإسلام. ولا أشك مطلقا أنهم قد استقوا أفعالهم المريضة من مثل هؤلاء الشيوخ المرتهنين إلى أفكار التطرف والجهل والإرهاب.
علّق أحدهم على تدوينة صديقي بأنّ هذا الإمام، نسي أو تناسى أنّ الميكروفون الذي يبث منه الفتنة قد صنعه “الكفار”، وأنه لم يأت إلى الجامع راكبا بعيرا أو أية دابة أخرى، بل سيارة من صنع من يسميهم بالكفار ويحرّم معايدتهم . بينما كان تعليقي على منشور صديقي، أنه مع اضطراب المعايير السائد حاليا، فإنّ كل من يذهب طوعا ويستمع إلى خزعبلات أمثال هؤلاء المتطفلين والمتنطعين من سدنة الفكر الوهابي المتطرف، ظنا منه أنه بحاجة إلى ترشيدهم ونصائحهم، سيستمعُ كرها إلى مثل هذا الخطاب المشبع بالكراهية، الذي يساهم في تجنيد أعداد أكثر من الساذجين في طفوف التطرف والإرهاب.
أكررُ كما يفعل غيري، بضرورة مراجعة الخطاب الديني، وتنقيته مما لحق به من شرائب مضرة، بل ومدمّرة أحيانا، ما يستتبعُ الخروج بخطاب يواكب حياة الناس ومشاكلهم اليومية، وظروفهم الاجتماعية. أما خطاب التهديد والوعيد فينبغي أن يُوجّه إلى تجار الحروب، والمليشيات التي تخرب الوطن باسم الثورة، وكذلك إلى السرّاق الذين ينهبون الوطن، ويسرقون أحلام الأجيال القادمة.