المصراتي “جاداً” في ذروة “سخريته”
سالم العوكلي
الكاتب والباحث، علي مصطفى المصراتي، أثرى مكتبتنا بعديد الكتب الهامة، بين توثيق وتأريخ وتحليل وإبداع، عبر إنتاج غزير يدل على مدى مثابرته وهمه بالثقافة الليبية وشؤونها، فالمصراتي الإنسان ليس نموذجاً فقط للتسامح والوطنية واللباقة ، لكنه يتمتع بخفة ظل وسرعة بديهة وروح دعابة ترفعه إلى درجة الكتاب الجادين الذين تمتلئ سيرهم الذاتية بروح السخرية الذكية والنكتة الحاذقة، وفي جلساتنا كثيراً ما نسرد دعاباته الفطنة ونستمتع مراراً باجترارها، وما يجعلها مائدة للحوار كونها فضلاً عن شحنة الضحك بها لا تخلو من مغازٍ عميقة وإشارات لاذعة. سخرية المصراتي التي تَكَثَّفُ في حياته وتكاد أن تغيب في كتاباته، عدا الإبداعية منها، توحي بكيان إنساني تواق للضحك حتى وهو يعبر عن المرارة في داخله. هذه المرارة التي تظهر جلياً في خطبه المرتجلة، وهو الخطيب المفوه الذي لا تخذله العبارة. المرارة الممزوجة بالحماس والتفاؤل هي معادلة المصراتي الصعبة التي بها يتنفس ويواصل العطاء، وهو من يقيم عادة مهرجاناً من المرح على هامش المهرجانات التي يحضرها بسرد المفارقات الفكهة التي تختزل مواقف المصراتي ومحيطه الاجتماعي وسيكولوجية الشخصية الليبية التي كثيراً ما تتبدى مضحكة في أقصى درجات جديتها.
حدثنا مرة عن شاعر مُدعٍ أهداه أحد مؤلفاته، فقال له المصراتي: اكتب لي إهداءً ووقع عليه!! اعتذر (الكويتب) كما قال، مبرراً ذلك بعدم حبه للتوقيعات على كتبه، فقال له المصراتي بسرعة بديهته: لابد أن توقع حتى لا أتهم بأنني اشتريته. وواصل حديثه عن شاعر آخر مزعج اصطدم به في زحام معرض القاهرة للكتاب، فقال له تركت لك البلد كلها فلم تزاحمني هنا؟ ثم أردف قائلاً: لكنه أهداني آخر ديوان له. فقلنا له: المهم أن يكون قد وقع عليه. فرد فوراً: لا لم يوقع، بصم عليه بإبهامه. وعندما منعت رئاسة جلسة إحدى الأمسيات الشعرية متشاعراً مضطرباً يصر على إلقاء مخطوطه كله في تلك الأمسية، توجه الشاعر تحت إحساسه بالاضطهاد لائذاً بالمصراتي وهو يقول: أنا أكتب شعراً موزوناً يا أستاذ علي ، فرد بهدوئه المعتاد في مثل هذا الموقف : المهم عندي أن تكون أنت موزوناً. ومرة كنا قادمين من مهرجان حول الكاتب غالب الدين الكيب أقيم في صبراتة، وفي بداية دخولنا إلى طرابلس من الغرب مر أمامنا قطيع ماعز، فقال: بلاد يكثر فيها الماعز تكثر فيها التيوس.
وكثيراً ما كانت بديهته الحاضرة مسلطة على مفارقات الواقع أو على أدعياء الكتابة، ممزوجة بحس نقدي مرح ولاذع في الوقت نفسه، منطلقة من إنسان محب للحياة وصريح إلى أبعد حد، سواء أكان متجهماً وغيوراً أم كان ساخراً، ورغم ذلك فإن المصراتي كان دائماً أكثر المرحبين بالأقلام الجادة والمثابرة ومشجعا لها دون حدود.
اتصلت به مرة لأدعوه لمحاضرة للدكتور نجيب الحصادي في اتحاد الكتاب بطرابلس ، فقال أنا مرتبط في الوقت نفسه بمحاضرة لأحد الأصدقاء الذين أجلهم كثيراً، ولكن د. نجيب أولى منه، ومع نهاية المحاضرة صعد المصراتي إلى المنصة وألقى كلمة مؤثرة قال ضمنها : أنا سعيد اليوم لأنني تشرفت بحضور محاضرة بما تعنيه الكلمة من معنى، ويحضرني الآن حادثة في مصر، عندما حضر طه حسين محاضرة لعبد الرحمن بدوي للمرة الأولى ، وقال في نهايتها: الآن استطيع أن أقول أن فيلسوف مصر قد ولد، وأنا بدوري أقول إن فيلسوفاً ليبيا قد ولد.
في مهرجان خمسينية إبراهيم الأسطى عمر الذي أقامته جامعة درنة العام 2001 م ألقى كلمة عن الشاعر، الذي هو أو من عرف به في كتاب صدر في الخمسينيات عن الأسطى عمر، وفي آخر الكلمة التفت إلى الخلف مشيرا بيده إلى صورة الشاعر، وقال جملته الجريئة : هذا هو رمز ليبيا الحقيقي في زمن المسوخ.
يحب المصراتي الجدية والتعب في كل ما يقدم ، ولا يتورع أن يتهكم صراحة على كل استسهال وادعاء، ورغم هذه الروح المرحة إلا أن المصراتي وجد نفسه في قلب مسؤولية توثيق ضخمة لثقافة وتاريخ اجتماعي تتداوله الشفاه أو الوثائق غير المحققة، فانبرى لهذه المسؤولية الضخمة، متنقلاً عبر هذه الأرض الوعرة، ليشيد مكتبته الموسوعية، ولينقذ ما أتيح له من التاريخ المهدد بالانقراض، وليبعث شخصيات ثقافية واجتماعية وتاريخية فاعلة من رماد النسيان. كل هذه المسؤولية جعلته منكباً على عمل شاق بعيداً عن روح الفكاهة في داخله، التي جعلت أدب الكثيرين على قمة مراتب الإبداع الإنساني، لكنه سرق أوقاتاً من هذه المسؤولية، ليلوذ بالسرد، والقصة خصوصاً، كذريعة للالتفات إلى ذاته التي كم زجرها في خضم تأصيله لذات المكان الجماعية، وبقدر ما كانت القصة متنفساً للروح الساخرة في داخله، بقدر ما كانت على علاقة وشيجة بمسؤوليته تجاه المكان ومشكلاته، ومن ثم مخزناً أدبياً لمئونته الأخلاقية تجاه قضايا مصيرية، حدد منها موقفه منذ البداية، كالهوية، والحرية، ومفهوم الوطن، وقيمة الإنسان السامية، التي ما انفك يسعى للجهر بها في كل محفل، إضافة إلى بث روحه المتسامحة في داخل هذه النصوص، التي تعكس إلى حد كبير استعارة المصراتي الكلية تجاه الواقع، لأن المصراتي الإنسان حاضر بكثافة في قصته، والتي لا تنبري لمغامرات تجريبية أو التهويم بشحنات شعرية، لكنها تخلص لتقليد ليبي شعبي في السرد، حيث الولع بالتفاصيل، ووضع الشخصية المحورية تحت مجهر، وبث أرائه الصارمة بين قوسين في جمل اعتراضية بما يشبه الحكمة أو المثل الشعبي، وحيث التشبيهات الساخرة ولكنة التهكم الموزعة على الحكاية، وحيث النهاية التي يرسم ملامحها عبر تطور القصة، وهي مكونات تقليدية للسرد الشعبي، تعكس ولع القاص بالتأصيل لكتابته عبر الأداة والخطاب، وحرصه الدائم، في الحياة والكتابة، على إسقاط الأقنعة وتعرية الزيف والأكاذيب.
وضمن هذا الطقس التعروي يجابه الكاتب بنى التخلف بضراوة ساخرة .. التخلف الاجتماعي الذي يهيئ بيئة خصبة لنمو شخصياته المتأزمة، ورغم ارتباط شخصيات المصراتي بأزمنة محددة وأمكنة بعينها، إلا أنها نماذج إنسانية النوازع،مفعمة بالحركة وبطاقات التوالد، وممهورة ب (الكيتش) المتواجد في كل مكان بوصفه ظاهرة مرتبطة بالوجود عبر الموافقة الحاسمة على كل ما ترسخ من كثرة التكرار، وهو إذ يصب جام سخريته عليها إنما ليحاول زحزحة اليقين الاجتماعي الذي يتورم في مجتمعات التخلف، حيث الأقنعة صلبة ومحكمة ، وحيث الاستجابة للزيف نوع من التصالح مع الذات الموكلة للأوهام، والمطيعة لكل ضروب التخييل والترويج الدعائي والحصار الشعاراتي، التي في مجملها تجعل الأكاذيب حقيقة من كثرة تداولها.
لم يكتب المصراتي رواية، لكن مجمل حكاياته التي كتبها في قصص قصيرة تشكل روايته التي لم تتوقف والتي كان يلاحق بها أوهام مجتمعات العزلة وأنساق تفكيرها، عبر هزوء لا يكف عن تفكيك هذه الكتل البشرية المحكمة الترسيم، التي أنتجها محيط عبَّاد للبدايات ، أسير للقوالب. مجتمع عجول، ولوع بالتعميمات والحكم على الأمور قبل فهمها .