المتهم تيك توك!
ممدوح المهيني
المشاهد على تيك توك طريفة ومسلّية وسخيفة في آن، ورغم الكم الكبير من مواعظ الناصحين والناقمين فإن عدد محملي هذا التطبيق في تصاعد. مليار مشترك نشط شهرياً بحسب ما أعلنت الشركة مؤخراً. أي أن واحداً من كل سبعة من سكان الأرض يشاهد على نحو منتظم مقاطع التطبيق الشهير. ازدياد أرقام المشتركين بسرعة يعني شيئاً واحداً: كل هذه النصائح يتم تجاهلها وترمى في سلة المهملات.
الاتهامات التي يواجهها تيك توك والمنصات الشبيهة به، تصدر عادة من جموع الكتّاب والمثقفين الذين يتحولون إلى وعاظ متخشبين لا يملّون من المطالبة بغلق ما لا يروق لهم.
الخطأ الذين يرتكبونه بالإضافة إلى أنهم يعارضون حركة الزمن ويريدون القضاء على التنوع الطبيعي البهيج للحياة المعاصرة، أنهم يرون هذه المنصات للنخبة ويحاكمون محتواها على هذا الأساس ولكنها منصات للجماهير العريضة وليست للقلة.
تصدّر نجوم هذه المنصات من مؤثرين وفنانين ولاعبين أمر طبيعي لأن هذه المجالات متعلقة بالترفيه الذي يهم الشرائح الأوسع من الناس. هذا ما يحدث تاريخياً وعالمياً، الشهرة الأوسع ليست للعلماء والمخترعين ولكن لنجوم الرياضة والترفيه.
هذه الحملات الانتقادية منطلقة من طريقة تفكير تسلّطية وتفريغ أحقاد للتعبير عن التفوق على الآخرين ولكنها لا تقدم إلا الشكوى. في رأيي الخطورة في هذه المنصات ليس فيها أو محتواها الخفيف والمسلي (أو حتى الساذج) ولكن في أساليب الانقسام والتجييش التي يمكن أن تستخدم بها.
إنها أيضا وسيلة مؤثرة في إعادة تدوير الأفكار المضرة مثل أفكار المؤامرة وإحساس الضحية. شاهدتُ مؤخراً فيديو على منصة تيك توك لشخص مختل يهين رموزاً دينية ويصفها بأبشع الأوصاف. هدف هذا الشخص واضح وهو استخدام هذه المنصات لخلق حالة من التناحر الديني والطائفي وبث جو من البغضاء داخل المجتمع الواحد.
الأزمة هنا ليست في هذه المنصات ولكن في هذا المحتوى الذي لا يمكن في النهاية منعه، فهو سينتشر مهما كانت العواقب. الإشكالية في فشلنا في خلق مجتمعات ناضجة فكرياً وتتمتع بقيم راسخة عن التعايش والمشاركة دون أن تؤثر عليها هذه المحتويات الضارة.
في هذه المنصات، يتم إعادة تدوير بشكل مستمر أن المسلمين ضحايا للغرب ويتعرض دينهم لحرب ضروس ودولهم للغزو والإبادة. ينشط هذا المحتوى بشكل مكثف لترسيخ إحساس الاضطهاد داخل الأجيال الصغيرة التي تتلقف مثل هذه الأفكار بسهولة، ويصعب بعد ذلك انتزاعها من وجدانها وتفكيرها.
ورغم أن الحقائق على الأرض لا يمكن دحضها (فكّر فقط بعدد المسلمين المسؤولين في الحكومة البريطانية) تفند هذه المقولات التخريبية، فإن هذه الطروحات تلقى الرواج على نطاق واسع لأن العقول مشكلة بطريقة تتقبلها دون مقاومة فكرية.
السبب واضح وهو غياب – لعقود طويلة – مناهج تعليم العلوم الإنسانية في المدارس والجامعات العربية التي ترفع من المستوى النقدي لفهم الواقع والتاريخ. مجرد قراءة الجملة السابقة يبدو الأمر أشبه بالطرفة السقيمة لأن هذه المدارس والجامعات سيطرت عليها لعقود الشخصيات المتأزمة فكرياً ونفسياً وشحنت الأجيال بالأفكار المريضة التي تزيد من عزلتها عن العالم وتقذف بها إلى مرحلة معدلة ومظلمة من الماضي.
وبسبب غياب مثل العلوم الإنسانية فإنه من الممكن أن نرى شخصيات لديها كل التقنيات الحديثة ولكن أفكارها منغلقة ودموية. وقد رأينا مختصين بالتقنية وأطباء ومهندسين ينضمون للتنظيمات المتطرفة ويستخدمون مهاراتهم لارتكاب الفظائع. وكما نعرف أن الخطابات التجييشية في وسائل التواصل كانت أحد أهم الأسباب التي تدفع صغار العمر من الالتحاق بالجماعات المتطرفة أو التعاطف معها.
الحل، في تقديري، ليس بإغلاق هذه المنصات أو تلطيخ سمعتها ووصف من يرتادها بالحمقى والمغفلين، ولكن العمل على طريقة تفكير تعزز قيّم المشاركة والتعايش والانفتاح الإنساني على الأديان والشعوب المختلفة والاندماج بالحياة المعاصرة دون شعور بالاضطهاد والكراهية والعزلة عن العالم. ربما هذا أفضل ما نقدمه للأجيال الجديدة في العام الجديد، بدل المواعظ التي تجعلنا نشعر بالرضا عن أنفسنا ولكنها ستتبخر في ساعات أو أيام.