المباشر والتسجيل بين التحريم والتحليل
منذ أن قيل إن المعرفة أصل الشر…
صار الجهل أصل المعرفة… ((أدونيس))
فرج عبدالسلام
لا أطلال تستحق الوقوف عندها والبكاءَ عليها، فما بين أيدينا من ثقافة نسيرُ على هدْيها مثقوبة في أحسن الأحوال. أضمُّ صوتي إلى القائلين بأن أمّة الإسلام هذه (والعرب أولهم بالطبع) منكوبةٌ في عقول من يتصدرون المشهد العام من كافة جوانبه، السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي. فليس بخاف على أحد ما جرّته الزعامات والنخب على بلداننا من أهوال لم ينفع معها حتى ما سُمي بربيع عربي أعرج، استبشر به الكثيرون خيرا لينقلهم من وضعهم المتردي الذي أوصلهم إليه الاستبداد، فإذا به يتحوّل إلى وبَالٍ يجعلُ “الرعية” يتوقون إلى عهد المستبد الظالم مع تنازلهم الكامل عن مطلب العدل.
أما موضوعُ النخبة الدينية فهو بيتُ القصيد، لأنها مصدرُ ما نرتعُ فيه من جهالة وما نعانيه من مصائب، ولا ينفك يخرُج علينا رموزها بين الفينة والأخرى ليؤكدوا أنهم مخلوقات أخرى لا تنتمي إلى هذا العصر، بينها وبين العلم والتاريخ والجغرافيا جفوة وهوة سحيقة لا مجال لجسرِها، فلا يؤمنون إلا بما تشرّبوه من وصايا رموزٍ غائبين عن كل ما يتصل بالحياة (باستثناء مُتعهم الحسّية طبعا)
أتحدثُ عن تغريبة السعودي (العتيبي) في ربوع ليبيا، لإعادة أسلمة قاطنيها الضالين، بعد أن وصله من عيونِه ومريديه فيها أن الناس قد حادوا عن السبيل، وأنه تلزمهم بضع لقاءات وخطب لتذكيرهم بالدين القويم الذي ترك المبشّرُ نسختَه الأصليّة وراءه في بلاد سعودٍ وابني باز وعثيمين، ولم يتلوث بمظاهر الحياة العصرية التي أنجزها الغرب الكافر خدمة لنا نحن الأمجادُ الأطهارُ من عباده.
رحلة العتيبي بين ظهرانينا مليئة بالنوادر والمفارقات والعِبر المستفادة أيضا، فبعد أن نكت ما في جعبته من علوم ربانية تعلقت بكافة مناحي الحياة من علوم الفلك إلى التكنولوجيا وكل ما يخطر على البال من أقوال مرسلة، لم يجد مستضيفوه من جماعة السلف الصالح غضاضة في إعلانها وترديدها على أكبر عدد ممكن من الليبيين الضالين. ورغم أنه لم يصلنا من علوم العتيبي المبهرة إلا القليل، إلا انه لابد وأنّ العالِم الجليل تطرق إلى مسائل حيوية وخطيرة تشغل بال شباب المسلمين هذه الأيام من حُكم زواج القاصرات، إلى تحليل سبي النساء وبيعهن في سوق النخاسة اقتداءً بالسلف الصالح كما رأيناه يحدث في فسطاط الإسلام في المشرق، وربما حدثَ عندنا أيضا في سرت وغيرها دون ضجيج إعلامي. فالتراث الإسلامي في نسخته العنفية المتأخرة من داعش إلى النصرة إلى القاعدة إلى بوكو الحرام إلى (استقمْ كما أمِرت!)، يدينُ بمفاهيمه بالطبع إلى السلفية والوهابية والتيْمية (نسبة إلى ابن تيمية) وما على غرارها، ويحفل بمبادئ وتعاليم يشعرُ الإنسانُ السويّ أمامها بالحيرة والصدمة.
من السهل الاسترسال في البكائيات وجلد الذات… فقد صارت جزءا من حياتنا مع استمرار النكبات.. ونحنُ لم نتبيّنْ بعد إذا ما كنا نصنّفُ ضمن الفرقة الناجية أم لا، رغم أنّ منطق الأمور يقول “كل حزبٍ بما لديهم فرحون”. لكننا لا يجب أن نتهرب من حقيقة مفادها: أن رسولَ قوم نجد والحجاز إلى مرتدّي ليبيا قد كثف من الجرعة التبشيرية حين أصرّ في كل مرة على تحريم القول بخرافة كروية الأرض أو دورانها حول نفسها وحول الشمس، والتي تراجع عنها حتى “غاليليو” اللعين بعدما واجهه (شيوخ) الكنيسة بفداحة فعلته…. وكذلك عندما حرّم استخدام التسجيل وأجاز البث المباشر، حتى وهو نتاجٌ لاستخدام أقمار اصطناعية صنعها الكفارُ ومكنته من نشر دعوته إلى المؤلفة قلوبهم.. وبالتالي لم أرَ غضاضة في تأييد اقتراح البعض بحماية هذا العالم الشيخ من التلوث بمنتجات الكفرةِ وثنيه عن ركوب طائرة للعودة إلى نجد والحجاز. فالواجب يقتضي إرسالَه إلى قومه ممتطيا بعيرا بعد تجريده من كل وسائل الحياة العصرية الزائفة.
يا لهواننا على أنفسنا وعلى البشرية، و”يا خسارة” على العقل الذي يميزنا عن باقي المخلوقات… يسيطرُ على أفكاري الآن عجزُ بيتٍ شهيرٍ صادمٍ من قصيدة هجاء المتنبي لكافور لن أضيف إلى هموم القارئ بالإشارة إليه، لكنني أبحثُ أيضا عمّن يدلّني إلى ركنٍ متين….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص 218