الحرب على الموت
*مقال خاص
218TV.net خاص
كأشخاصٍ مسالمينَ لم نشاركْ في لُعبةِ الموتِ هذهِ إلا من خلالِ كونِنا جمهورًا متابعًا مراقبًا للمشهدِ و مترقبا للحتفِ و خاضعًا لقوانينَ الُّلعبةِ دون أن يكونَ له أدنى قناعةٍ في أن يستخدمَ الأدواتِ ذاتِها التي تحاربهُ بها لعبةُ الموتِ ضد الموتِ و لعبتُهُ ، ذلك أننا ندركُ أن ضربَ الموتِ بالموتِ لن يولدَ سوى المزيدَ منه، و لأن الحربُ متى وُجدتْ فإنها تستبدلُ عرضيةَ الموتِ و ارتباطهِ بالفردِ لتحيلُهَ حدثًا جماعيًا اعتياديًا للدرجةِ التي تجعلُ من الضحايا مجردُّ أرقامٍ تزيدُ فنستنكرُ و تقلُ فنشكرُ اللعبةُ ، و لأننا نبقى بذلك على تماسٍ دائمٍ مع الموتِ بشتى صورِهِ و دوافِعِهِ و نتائِجِهِ فإنَّ هذا يفرضُ علينا حيرةً أكبرَ إزاءَ الموتِ و يطلبُ منا مزيدَا من التفسيرِ و التعريفِ .
طالما كان الموتُ هذا اللغزُ السئُ الذي ينذرُ بالفناءِ و انعدامِ الجدوى و الحكمِ على الذاتِ بالنسيانِ و الاندثارِ ، فللإنسانِ حسٌ عميقٌ نفسيًا و تاريخيًا بأهميةِ ذاتِهِ الأمُر الذي جعلَهُ في بحثٍ متواصلَ على ينبوعِ الحياةِ الدائمةِ و فرضَ عليه رحلةَ نحو الخلود اختلفت و تفرعت طرقها ، فكانت ملحمة كلكامش و كان الاعتقادِ بالحياةِ بعد الموتِ و كانت أيضَا أهميةُ انجابِ الذكرِ الذي يحملُ اسمَ والدِهِ وعائلتِهِ فتبقى قابلةً للتذكرِ أجيالًا اضافيةً و كأن الفنَّ و الكتابةَ و الشعرَ و الابتكارَ و حتى افتعالَ الموتُ و اشعالَ الحروبِ .
أثناءَ الحربِ يَشيعُ القولُ أن الموتَ قدِ انتصرَ على جميعِ محاولاتِ الإنسانِ لمقاومتِهِ و أنه تغلّبَ في داخلِنِا على جميعِ مقوماتِ الحياةِ و أننا سنصبحُ تِبَاعًا جنودًا للموتِ نسيرُ على هدْيِهِ و نْبذُلُ ما أستطعنا لنفتعلَ المزيدَ منه ، فتحاولُ الفئةُ المناهضةُ للحربِ وضعَ اللومِ على كلِّ ما تراهُ قد تسببَ في ذلك العزوفُ عن الحياةِ ، إذْ أنَّ ما نراهُ ظاهريًا هو حالةٌ منَ الانتحارِ الجماعيةِ تعاينُ بذاتِ طريقةِ معاينةِ حالاتِ انتحارِ الأفرادِ ، و نقولُ على قدرٍ كبيرٍ من الثقةِ أن صدمةً قويةً في الحياةِ أصابتْ الجماعاتِ الشابةَ التي يفترضُ أن تكونَ صاحبةَ إقبالٍ شديدٍ على الحياةِ جعلتها تهرُبُ إلى الموتِ ، لكنَّ هذا الاعتقادَ و بوجهةِ نظرٍ شخصيةٍ لا يكفي ليضعَ تعريفًا دقيقًا لهذا الموتِ الذي يحاصرُنا بمسبباتِهِ الكثيرةِ .
و على الرغمِ من كونِ العاطفةِ الجياشةِ و الرغبةِ الشديدةِ في الدفاعِ عن القيمِ و المبادئِ الشخصيةِ و الجماعيةِ هي أكثُر ما يميلُ البعضُ لوضعِهِ كتفسيرٍ للرغبةِ في الفناءِ إلا أنها بنظري عواملُ تحفيزيةٌ لا تجعلُ من المرءِ مستعدًا في قرارةِ نفسِهِ لمواجهةِ الموتِ ! إذْ أتصورُ أنهُ لا وجودَ لهذا الكمِّ الهائلِ منَ الأشخاصِ المستعدينَ لمواجهةِ الموتِ كالذي نشاهدُهُ في زمنِ الحربِ ، فحتى حالاتِ الانتحارِ الفرديِّ و التي تدلُ فعليًا على وجودِ عددٍ من الأشخاصِ المقبلينَ على الموتِ في العالمِ لا يخلو أمرُهَا من حالاتِ تعاطي المنتحرِ لبعضِ العقاقيرِ التي تجعلُ من مواجهةِ الموتِ أمرًا أسهلَ و تجمدُ إدراكَهُ لهذا الحدثِ المَهيبِ و المُوحشِ .
وبالنظرِ لنفسيةِ المحاربِ عن كثبٍ و محاولةِ تحليلِ الجملةِ الأشهرِ التي يقولُهَا أكثرَ من غيرِهَا لدوافعَ مختلفةٍ ، جملةِ ( النصرُ أو الاستشهادُ ) لا نجدُ أيَّ دليلٍ على وجودِ الموتِ بمعنى الفناءِ ، كما أنه يستبعدُ بذلك حتى إمكانيةَ أنْ يخلدَ معذبًا في الآخرةِ فالمحاربُ الذي يقبل على الموت ، هذا الفعلُ المرعبُ الذي يهددُ سعادتَنا نحنُ الأحياءَ المسالمينَ و يجعلُنَا نترقبُ حالاتِ الفقدِ و أصواتَ النسوةِ النائحاتِ ، لا يؤمنُ بموتِهِ الشخصي , إنهُ ينتقلُ داخلَ وعيِهِ بين حياتين محببتين ، الأولى حياةٌ يعيشُ فيها منتصرًا مفتخرًا بما حققَ ، و الثانيةُ حياةً أبديةً خاليةً من العذابِ و المسائلةِ
كما أنه عندَ الانتقالِ من المحاربِ الفردِ إلى الشعبِ المتعرضِ للحربِ كالحالِ مع الشعبِ الليبي الذي يبدو لوهلةٍ أنه مناصرٌ للحربِ و منساقٌ للموتش عبرَ تقديمِ شتى أنواعِ الدعمِ لأبنائهِ المحاربينَ و تقديمِهِمْ تباعًا لهذا الحتفِ المرعبِ ، يشيعُ القولُ من قِبلِ ذاتِ المناهضين للحربِ أننا شعبٌ لا نملكُ مقوماتِ الحياةِ و الدوافعَ الحقيقيةَ التي تجعلُ من شعبٍ ما شعبًا حيًا فنحنُ لا نقدرُ الفنَّ و لا نجيدُ الاتصالَ بغيرِنا من الثقافاتِ و لا نحبُّ العملَ لساعاتٍ طويلةٍ و أنَّ كلَّ ما هوَ ابداعيٌّ في نظرِنا هو ابتداعٌ غيرُ محببٍ مما يجعلُنا نركنُ للموتِ بسهولةٍ أكبرَ ، إلا أنَّ الشعبَ الليبيَّ رغمَ تحولِ شخصيتِهِ التي يعتقدُ أنها ستبقى مسالمةً و خيِّرةً إلى شخصيةٍ شريرةٍ و عنيفةٍ مازال يرفضُ الموتَ رفضًا شديدًا ، فبالرغمِ من كونِ الحربِ في ليبيا ليستْ حربأً بينَ فريقينِ فقطْ فقدْ تفرعتْ الفرقُ و تشعبتْ إلا أنَّ الشعبَ الليبيَّ لمْ يحرمْ فريقًا من الشهادةِ _ المنافيةِ لفعلِ الموتِ _ بلْ جعلَ من (نيةِ) المحاربِ من أيِّ فريقٍ كان الفيصلَ في أمرِ شهادتِهِ و بالتالي عدمِ موتهِ .
كما أن الشعب الليبي ذُهلَ و رفضَ و استنكرَ و حزنَ حزنًا شديدًا في الأونةِ الأخيرةِ بعد أقدمَ شبابٌ و شاباتٌ من مدينةِ البيضاءِ و بعضِ المدنِ الليبيةِ على فعلِ الانتحارِ و حاولَ بشتى الطرقِ أن يضعَ تفسيراتٍ منطقيةٍ كانتْ أمْ خرافيةٍ لتبرئِةِ أبنائِهِ ، فالمُقْدِمُ على الانتحارِ قد خسِرَ _بوجهةِ نظرٍ ليبيةٍ _ الحياتين المحببتين . هذه الاستشهاداتُ و غيرُها لا تجعلُ من الشعب الليبي شعبًا هاربًا للموتِ بالقدْرِ الذي تبينَ فيه التباسَ مفهومِهِ للحياةِ ، فهو في الحقيقةِ لا يحبُ الموتَ
لكنَّهُ يحبُ أنْ يحيا بطريقتِهِ . مما يصعبُ علاجَ الموقفِ و إلغاءِ فكرة ِالحربِ من العقليةِ الليبيةِ فحتى بتوفرُ حياةٌ كريمةٌ ملائمةٌ للمواطنِ الليبي تبقى في قرارةِ نفسِهِ هذه الرغبةُ العميقةُ في بلوغِ الحياةِ الأخرى المحببةِ أيضًا ، فكمْ كان الحسدُ باديًا في حديثِهِ بشأنِ شهداءِ فلسطينَ و رغبتُهُ في أن ينالَ شرفَ الشهادةِ ، الذي جعلَهُ و سيجعلُهُ يفتعلُ حروبًا ومعاركَ و يسعى لاستمراريتِهَا .