الكسل اللذيذ
نجيب الحصادي
لا شيء كالكسل قادر على شل القدرات الذهنية والإصابة بعلل نفسية ليس أقلها الإحباط والتشاؤم. وفي المجالات الإبداعية تحديدا، لا شيء مثله مصدرا للاستسهال ومأتى لما يتناسل في الساحة الثقافية من أدعياء.
غير أن الكسل، على الرغم مما قد يورثه من فتور همة وعجز عن الفعل، قد يمارس عبر مسلكيات تبدو غامرة بالنشاط، العضلي تحديدا. يحدث هذا على سبيل المثل حين يتحمل أعضاء هيئة التدريس في الجامعة مهام مكتبية من قبيل رصد الدرجات والإشراف على شؤون التسجيل والامتحانات، حيث يحدث كل ذلك على حساب عطائهم الأكاديمي، ربما في محاولة لإخفاء قصورهم فيما أجدر بهم أن يحسنوا. وضرر هذا المسلك إنما ينتج عن منحه أصحابه إحساسا زائفا بأنهم يقومون بدورهم ويسهمون بنصيبهم في تأدية واجبهم، في حين أنه يعطل قدراتهم البحثية وحتى التدريسية، كونه يجعل الواحد منهم يهدر طاقاته في غير موضعها، دون تقدير لمسؤوليته في هدرها.
أسوأ من ذلك أن ممارس الكسل الذي يستعيض عن مهامه الحقيقية بمهام أقل مدعاة للعنت، غالبا ما يكون أقل عرضة لوخز الضمير من ممارس الكسل الذي يحجم نهائيا عن الفعل، لأن نفسه قد تسول له رضاها المهني، كما أن الموظفين المكلفين أصلا بما يتطوع به من خدمات سوف يشملونه بعبارات الشكر الثناء، فلا يعود لديه حافز حتى لاكتشاف ما يعاني منه من قصور.
وغني عن البيان أن أثر كسل المعلم، في أي مؤسسة تعليمية، لا يطوله وحده، وأن كسل الأدعياء في المجالات الإبداعية إنما ينشئ جيلا يتوهم أن المجد سهل المنال، بما يفضي إليه هذا الوهم من عرقلة لتطور روح المجتمع الخلاقة في المجالات الفنية والأدبية واختلال في قيمها الإبداعية.
يستبان أيضا أن الكسل قد يكون علة وأثرا لما يعاني منه أي شعب من تخلف، بل مقياس لدرجة هذا التخلف. إنه يقوم بدور مزدوج، كونه يؤدي من جهة إلى التقليل من حجم ما ينجز في المجتمع، وينتج من جهة أخرى عن عوز في أساليب المحاسبة والرقابة، وكلاهما، ضعف المنجز وعوز الرقابة، سمتان للمجتمع المتخلف..
في المقابل، ثمة ما يمكن أن يوصف بالكسل اللذيذ؛ كسل من أدى مهامه على أحسن وجه وبذل من الجهد ما يجعله جديرا بالاستمتاع بوقته. الكسل هنا مشبع بروح الرضا الحقيقي عن النفس، وهو في الوقت نفسه حافز للمزيد من الجهد والمثابرة والإبداع. والحال أنه ليس كسلا إلا من حيث كونه إمساكا عن ممارسة أنواع بعينها من الأنشطة. غير أنه يهيئ بهذا الإمساك لممارسة أنواع أخرى منها.
يذكرني هذا بالروائي الذي رأته زوجته واقفا ينظر من النافذة، فزجرته بقولها “إذا لم يكن لديك شيء تقوم به، فلماذا لا تعينني على غسل الصحون؟” لم تكن تعلم أنه يبذل أثناء تطلعه إلى الأفق جهدا سوف يتكشف يوما ما في عمل إبداعي جليل.