الكتابُ المستعمل … معرض دائم لعشاق القراءة الأوفياء
خاص 218| خلود الفلاح
يُروّج البعض لانتهاء عصر الكتاب الورقي قريبُا؛ لكن مكتبات بيع الكتب المُستعملة في ليبيا لديها قراء وصفتهم بـ “المواظبين”، ولعل أسعارّ الكتب القديمة، وحبّ القراءة من أكثر الأسباب التي تدفعنا للمحافظة على زيارة هذه المكتبات؛ خاصة مع ارتفاع أسعار الكتب الجديدة قياسًا على الوضع الاقتصادي السيء.
بدأ رابح البرعصي صاحب مكتبة “رابح لبيع وشراء الكتب القديمة”، هذه المهنة منذ العام 1996، على الرصيف في شارع عمر المختار، وبعد فترة من الزمن؛ أصبحت لديه مكتبة معروفة تُعدّ من أقدم مكتبات بيع وشراء الكتاب المستعمل في منطقة “سوق الحوت” بمدينة “بنغازي”، وبسبب الحرب وقفل منطقة وسط البلاد؛ انتقل إلى منطقة “الماجوري”.
وبحسب ضيفنا؛ فإن الكتب القديمة أسعارها منخفضة في متناول القراء “دينار واحد فقط”، ويُفضل القارئ عادة الكتب التاريخية القديمة النادرة، وكتب تاريخ ليبيا، والكتب الأدبية. وإلى جانب الكتب القديمة، هناك جانب في المكتبة للكتب الجديدة، وهي أيضًا لها قراء، خاصة الروايات وكتب التنمية البشرية، بحسب قوله.
ويؤكد “البرعصي”، أن هناك طلبًا على الكتب المستعملة وأن هناك قرّاء دائمين يبحثون عن الكتب السياسية، وكتب الفلسفة، ويشير إلى أن نقص السيولة حاليًا لم تؤثر على قارئ الكتاب المستعمل، خاصة أن الأسعار لا تتجاوز الدينار الواحد.
من ناحيته، قال صاحب مكتبة “مرصد الساحل”حسني البلعزي: منذ 15 عامًا تقريبًا، كنت بائعًا مُتجوّلاً في سوق الجمعة الشعبي، إلى أن بدأت التوسّع في عملي، وبمساعدة بعض الأصدقاء؛ أصبحت لدي مكتبة رسمية لبيع الكتب الجديدة والمستعملة.
وتعد صفحة المكتبة على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” هي نقطة الوصل بين المكتبة والبائع.
ويعتبر “البلعزي”، أن وفاة صاحب الكتب هي السبب الرئيس للبيع، فعندها يلجأ الورثة لبيع الكتب أو التبرع بها مجانًا وفي الأغلب تُعرض للبيع بأسعار زهيدة جدًا.
رقابة ومنع
من جانبه، أوضح رابح البرعصي أن مصدر شراء الكتب القديمة قد تكون من شخص لم تعد لديه رغبة في الاحتفاظ بالكتب، حيث يأتي ويبيعها بسعر الجملة.
وأضاف: في حالة أخرى عندما يتوفى رب الأسرة ويكون لديه مكتبة في المنزل فيقوم أبناؤه ببيع مكتبته بسعر زهيد بغرض التخلص منها. وللأسف البعض لا يعرف قيمة الكتب التي أفني والدهم عمره في جمعها أو هي الإرث الثمين الذي يعتقد أنه تركه للأبناء، وبالنسبة للجيل الحالي فإن أقلية منه تحرص على القراءة واقتناء الكتب.
وأردف ضيفنا: الكتب القديمة تخضع أيضًا للرقابة والمنع، ولدي رخصة صادرة من رقابة المطبوعات “بنغازي”.
وأكد “البلعزي”، أن قراء الكتاب المستعمل كثر جدًا، وقال: عددهم فوق ما تتصورين، وهم مواظبون باستمرار على التردد على المكتبة، وما يميز الكتاب المستعمل عن الكتاب الجديد قد تكون كلمة “الطبعة الأولى”، وهذا مهم جدًا لدى بعض القراء.
ويرفض “رابح”، ما يتردد حول انتهاء زمن الكتاب الورقي وأنه في منافسة شديدة مع الكتاب الالكتروني، ويضيف: كلاهما سيبقى طالما أن هناك قارئ يبحث ويهتم”.
ويرد “البلعزي”، على المنافسة بين الكتاب الالكتروني والورقي باقتباس من الكاتبة البريطانية جين غودال، مفاده: “لكن أمرا فريدا سيظل دوما من نصيب الكتاب الورقي، إنه إحساس اليدين بالورق، ومنظر الكتاب وهو على الطاولة أو على السرير، أو حتى وهو قابع على الرف بجوار إخوانه كالطير في عشه”.
وأردف “البلعزي”: في ظل نقص السيولة هناك سوق جيدة جدًا للكتاب المستعمل. هناك صحوة ثقافية بشكل عام، وأيضًا هناك جمهور لا بأس به للكتاب المستعمل، على الرغم من الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمرّ به البلاد.
علاقة دائمة
بدوره، قال الكاتب أحمد التهامي، وهو من القراء الدائمين لزيارة مكتبات بيع الكتاب المستعمل خاصة مكتبة “رابح” ومكتبة “الاستقلال”: هناك ثمة متعة خاصة لا يجدها المرء إلا في الكتب المستعملة فكما هي شهادة على موضوع ما؛ فإنها أيضًا شهادة على ارتباط جيل مضى بالموضوع المنافس، وتشهد على علاقة فردية بين الكتاب ومقتنيه الأول ثم الثاني وهكذا، ولكن أهم ما في الكتاب المستعمل هو حقيقة كونه غير مكلف، ولذلك فهو أقرب إلى ظروفنا ويُسهّل علينا كمنتمين للطبقات الأفقر اقتناءه.
ويبحث أحمد التهامي، عادة، عن الروايات العربية والمترجمة ثم كتب الفلسفة، وأمهات الكتب غربية وعربية ثم كتب تمثل حلقات في تطور علوم النقد الأدبي.
وأضاف: على سبيل المثال اقتنيت كتاب تزفتان تودوروف المهم “نحن والآخرون”، وكتابه “فتح أمريكا” بمقابل دينارين لأنه مستعمل.
في المقابل، يقول أحمد ونيس ـ من جيل الكُتاب الشباب: ربما يمكن القول بأنني مغرم بالكتاب القديم، في العادة ما يشدني ويستهويني من محتوى ثقافي معرفي أرغب في قراءته: تكون الفلسفة دائمًا في مقدمة الاختيارات والاهتمامات، تأتي من ثم الحقوق وهو مجالي الدراسي، بالإضافة إلى الأديان، والميثيولوجيا، الأدب، والمسرح.
وأضاف: هذا ليس كل شيء؛ فإنه إلى جانب هذا الولع بالكتب القديمة؛ تقف أهمية مواد ومحتوى تلك الكتب، وهو ما تدركه من تفاوت بنظرة خاطفة عند المقارنة اذ ما كنت قارئًا؛ نظرًا لما تشكله هذه الكتب مقارنة بما يصدر حاليًا، وتوفره المكتبات بالسوق أمام القراء.
وأردف: هناك كذلك مقص الرقيب في هذا الجانب، العاطل عن العمل، وإنني لن أحترم نفسي وعقلي كقارئ ما دمت لا أعي خطورة هذا المقصّ الذي ينخره التخلف وهو يحاول جاهدًا حجب النور عن هذا العقل.
المستعمَل ينتصر
وقال “التهامي”: في أثناء الحرب وانقطاع السيولة لم يعد أمامي إلا المكتبات التي تبيع الكتب المستعملة بميزانية لا تحتمل طرق الشراء العادية لكتب جديدة مرتفعة السعر، وأنا أتحدث إليك ومكتبتي مُقسّمة إلى أربعة أصناف تقريبًا؛ جزء بسيط هو كتب اشتريتها جديدة في فترات زمنية متباعدة، وعدة أكياس وتجميعات لكتب قديمة اشتري أحيانا أكثر من20 عنوانًا في المرة الواحدة، وبضعة مصادر قمت بتصويرها عن أصول للصديق والأستاذ محمد عبدالحميد المالكي.
في سياق متصل، يرى أحمد ونيس أن قيمة الكتاب القديم عمومًا، من حيث محتواه، ثابتة لا تتبدل بـمرور السنوات.
وأضاف: عزوفي عن شراء الكتب الصادرة حديثًا؛ سببه الأسعار الجنونية، خاصة وأنا أعيش في بلد يشهد انهيارًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا؛ الأمر الذي ينعكس سلبيًا على حياتنا جميعًا من حيث القدرة الشرائية، وتأثيرها في سعر الصرف وتأثير سعر الصرف عليها.
وأردف “ونيس”: الكتب المستعملة تكاد تكون هي ما يملأ نصف مكتبتي وأحرص على اقتنائها بين فترة وأخرى، ففي هذا الأسبوع، مثلاً، اشتريت 39 كتابًا مستعملاً: منها ثلاثة دواوين شعرية، إحداها لـ”أدونيس”، والبقية لممدوح عدوان، وخالد زغبيه.
وتابع: كذلك وقعت يدي على مجموعة قصصية من الأدب الصيني بعنوان “ديدان القز الربيعية” للأديب ماو دان، إضافة إلى مجلد رحلات “ماركوبولو ” في جزئه الأول، وكتاب حول التناسل والإخصاب في الثدييات ومؤلفات أخرى متنوعة.