القاعدة الأميركية في ليبيا: الدروس غير المستوعبة
أمين بن مسعود
تصريح وزير الدفاع في حكومة فايز السراج فتحي باشاغا بأنّ المجلس الرئاسي يُرحب بوجود قاعدة عسكرية أميركية على الأرض الليبية، لم يأت من فراغ، وهو تصريح خطير بالنسبة إلى المنطقة المغاربية عامّة وتونس بالتحديد، ولا بد أن يؤخذ على محمل الجدّ.
من البديهيّ أن نستبعد فرضية ارتجال باشاغا لهذه الدعوة العسكرية، لا فقط لأن الأطراف الليبية المتحاربة متشابكة سياسيا وعسكريا وماليا مع أطراف إقليمية نافذة، وبالتالي فأي خطوة قولية أو فعلية لا بد أن تُدرس ضمن مظلة سياسية واسعة، ولكن أيضا لأنّ واشنطن تدرس منذ مدّة غير قصيرة سيناريوهات التدخل العسكري في ليبيا ضمن إطار ليبي معيّن، خاصة بعد أن تفاقم دور بعض القوى الإقليمية بشكل لافت.
ومن البديهي أيضا ألّا نستغرب توثبا أميركيّا على الساحة الليبية بشكل أكثر وضوحا وترسّخا، ذلك أن واشنطن التي تستعين بقاعدة عسكرية رسمية للأفريكوم في جيبوتي مع جيوب عسكرية لها في أكثر من عاصمة أفريقية، والتي أقدمت على توجيه ضربات صاروخية إلى مُعسكرات لتنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى في الجنوب الليبي، لن تتردد في رسملة وجودها العسكري في ليبيا طالما أنّها رأت في هذا الأمر ضرورة ومنفعة.
في العُمق لن تترك واشنطن الساحة الليبية شاغرة لممثّلي باريس وبرلين وروما، الذين أثثوا مؤتمر برلين وصاغوا قرارا دوليا لوقف إطلاق النار ووضعوا آلية 5+5 لتثبيت الهُدنة الهشّة، وما كان لهم أن ينجزوا كل هذا لولا سعيهم الحثيث لاستقدام سريع لملف إعادة الإعمار ووضعه على طاولة المفاوضات وتقسيم الكعكة الليبية وفق المواقع والمواقف.
وفي أبجديات السياسة لدى الولايات المتحدة لن تسمح واشنطن لأنقرة بالاستفراد بحقول الغاز الطبيعي في السواحل الليبية لاسيما عقب ترسيم الحدود البحرية، ولن تقبل باحتكار تركي لنقل الغاز الليبي إلى أوروبا، إلا إذا كان لأميركا خراج الاتفاق وفاتورة الموافقة والإقرار.
أما في ظاهر الأمور، فإن المجلس الرئاسي يسعى إلى واجهة إقليمية ودولية قوية، للإقرار بشرعيته المهترئة في مقابل الشرق، مُدركا أنّ أنقرة التي تخسر الأرض والعتاد في الشمال السوري، وواشنطن التي تخسر الموقع والحلفاء في سوريا وأفغانستان، ستجدان في الجغرافيا الليبية ما يردّ شيئا من الهيبة المفقودة في الحدائق الخلفية المشتعلة.
ضمن الحسابات السياسية للمجلس الرئاسي، سعي إلى إبراء الذمّة من تُهمة الاستناد إلى المجموعات الإرهابية، ورغبة في تعديل ميزان القوى العسكري في ظل الوجود الروسي المتزايد في ليبيا، وحرص على إحداث هوّة سياسية وإستراتيجية في التقارب الإماراتي السعودي الأميركي (لاسيما عقب خطاب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في الرياض)، تكون بدايته الأساسية في ليبيا ومُخرجاته في الخليج العربي، أو هكذا يُخطط المجلس الرئاسي.
أما أميركيّا، فإن استبدال جغرافيا الانسحاب في أفغانستان بجغرافيا الاجتذاب في ليبيا، سيكون له دور أساسي في إسكات الأصوات المعارضة والتي تعتبر أن سياسة دونالد ترامب أخذت منحى الهروب والتخلّي عن الأصدقاء في الشرق الأوسط وتركهم وحيدين أمام الخطر الإيراني والإسلامي الأفغاني. لاسيما وأن التموقع العسكري في أفريقيا، يتناسق مع الجهود الأميركية في محاصرة المارد الصيني في القارة السمراء، ويتناغم مع تمثّل واشنطن للإرهاب النائم والممتد من منطقة الساحل الأفريقي إلى السواحل الأوروبيّة.
ولكن ما فات المجلس الرئاسيّ من هذه الخطوة المتهورة أن واشنطن لم ولن تضع بيضها السياسي في سلّة واحدة مهما كان عنوانها، لاسيما زمن الحرب الأهلية وتنازع الشرعيات السياسية، وأن المجلس الرئاسي لن يكون أكثر حظوةً وثقلًا استراتيجيّا من أكراد سوريا أو من حمائم أفغانستان، والذين تركتهم أميركا لمصيرهم بعد أن اختل حساب البيدر مع موازين الحقل.
وما فاته أيضا أنّ الموقف التونسي والجزائري والمغربي من المشهد الليبي لن يبقى على الحياد القائم، في حال رأت هذه العواصم قواعد عسكرية أميركية كبرى قُرب حدودها، لا فقط لأنّ استدعاء واشنطن سيُعتبر خطوة خارج التوافق المغاربي، بل لأن القواعد العسكرية الأميركية هي استجلاب للعمليات الإرهابية واستدعاء للتنظيمات التكفيرية إلى المنطقة المغاربية برمّتها، وما الصومال والعراق وأفغانستان وباكستان ببعيدة عنّا.
المشهد في ليبيا يتدحرج بسرعة من الإقليمي إلى الدولي، وحالات استدعاء القوى الدولية ما هي في المحصلة إلا فائض في طلب الشرعية الخارجية في ظل شرعية محلية مهترئة ومنقوصة، وعلى عكس ما يتوهّم المجلس الرئاسي فإنّ المشهد ذاهب نحو الاستعصاء العسكري والدبلوماسي والاقتصادي والسياسي، وكلّما حلّ الاستعصاء حلّت معه حلول التقسيم الجغرافي وتقاسم الثروات والنفوذ.