الفن لا يعرف خط الاستواء
طارق الشناوي
بعد 48 ساعة، يسدل الستار في القاهرة على مهرجان ومؤتمر الموسيقي العربية، في دورته التي تحمل رقم 26 عاماً.
تظاهرة تتجدد فيها دائماً الأشواق إلى كل ما هو أصيل وعميق وممتع، وذلك عندما نُطل على الماضي بأغانيه وموسيقاه، البعض يعتبرها فرصة لكي ينهال بالهجوم على الغناء الحالي، وذلك بالترحم على الأغاني والموسيقي في الزمن القديم الذي ننعته كالعادة بالجميل؛ كأن كل ما هو دون ذلك يعني ضمنياً القبح بعينه.
من الذي يملك هذا القرار في اختيار الخط الفاصل بين القبح والجمال؟ وهل هو قاطع تماماً مثل خط الاستواء الوهمي الذي يفصل بين نصفي الكرة الشمالي والجنوبي؟
هل في الفن خط استواء يحدد بالضبط الغث والسمين؟ أنا شخصياً لا أنكر أن أذني تحنّ أكثر لأغنيات الزمن الماضي، أعني أصوات أم كلثوم، وعبد الوهاب، وفريد، وليلى مراد، وفيروز، وشادية، ووديع الصافي، وناظم الغزالي، وعبد الحليم، وغيرهم؛ لكن في الوقت نفسه أرى أن حبال الود قائمة بيني وأصوات كاظم الساهر، وصابر الرباعي، وأصالة، ومدحت صالح، وشيرين، ونانسي عجرم.
في الفن لا يمكن أن نشجع على تفشي حالة الإقصاء التي يمارسها البعض، عندما يحيل الخط الوهمي إلى سور واقعي يحدد الجمال بالزمن، وكأن القبح لم يقفز عبر كل الأزمنة، ومثله أيضاً الجمال الذي ينتقل فوق حاجز الزمن (رايح جاي).
مهرجان الموسيقي العربية يؤكد أن قطاعاً لا يستهان به من الجمهور لا يزال على العهد، تجب ملاحظة أننا هنا نتحدث عن جمهور خاص تحده وتحتويه جدران الأوبرا، بما يعني الاختيار النوعي، لا يتجاوز الحضور 1000 متفرج، وهو عدد مقاعد دار الأوبرا. لو تصورنا جدلاً أننا نقيم حفلاً في استاد يتجاوز الحضور فيه 100 ألف، فهل سنجد في هذه الحالة سوى جمهور عمرو دياب، ومحمد منير، وراغب علامة، وغيرهم، ليملأ المكان؟
في مهرجان الموسيقي العربية، حرص بعض القائمين عليه في الكلمات الافتتاحية على النيل من هذا الزمن، وتساءلوا عن كبار الموسيقيين الذين تم إبعادهم عن الخريطة. السؤال: هل كل الجيل القديم لا يزال محتفظاً بلياقته الإبداعية؟ إجابتي هي بالتأكيد لا.
الحياة الفنية في كل الأزمنة ستجد أنها تتحرك وفق مجموعات تتصارع أحياناً، مثل حزبي فريد الأطرش وعبد الحليم، وروى لي مثلاً المطرب الراحل محمد رشدي أن بليغ حمدي رغم صداقتهما، فإنه اشترط عليه لكي يمنحه لحن «ردوا السلام» أن يقدمه في حفل عبد الحليم الذي يقيمه في الربيع، ويعتذر لفريد الأطرش الذي كان يحيي الحفل في التوقيت نفسه، فاعتذر رشدي؛ لأنه كان قد اتفق مع فريد، فما كان من بليغ سوى أن أسند «ردوا السلام» إلى عفاف راضي لتبدأ مشوارها. وتحت المظلة الجماهيرية لعبد الحليم حافظ، على الجانب الآخر، فإن محمد رشدي لم يكن قد غنى من قبل من تلحين فريد الأطرش، الذي منحه مقابل هذا الموقف أغنية «عشرية».
إنه صراع وضربات تحت الحزام كما ترى؛ لكن في نهاية الأمر لو حسبتها بالأرباح والخسائر، فستقول: قدم بليغ عفاف راضي في لحن ناجح، بينما رشدي تحققت أمنيته في غناء لحن شعبي بتوقيع فريد الأطرش.
الأغنيات الرائعة ليست حكراً على زمن دون آخر، نعم مهرجان الموسيقي العربية يجدد في أعماقنا عدداً من الأغنيات القديمة الجميلة؛ لكن في نفس الوقت، علينا أن نوقن أن الجمال مثل القبح، يقفز فوق أسوار الزمن، متحدياً خط الاستواء الوهمي!
_____________________________