الفنان رضوان بوشويشة.. وحرائق البوعزيزي
سالم العوكلي
في إحدى زياراتي إلى طرابلس، كان رضوان بوشويشة، الشغوف بروح طرابلس وتاريخها، يقودني عبر أزقة مدينتها القديمة ، متحدثا بورع عن كل زاوية فيها أو همسة حجر، وحينما تعبتُ من المشي اتكأتُ على كتفه، فانتفض قائلا : أنا متكّي على رضوان اتزيد انت تتكَّا امعاي؟! . تلك القدحات الشعرية التي عادة ما يوقدها بحس كوميدي ممزوج برهاب تراجيدي ، تمثل أسطورته التي تمشي على قدمين، مكابداً بها ضراوة الواقع المتواطئ مع كل ما يعكر صفو تأملاته وحنينه الدائم إلى طفولة الأشياء والكائنات التي تأفل أمام ناظريه فينقلها إلى محميته النثرية أو التشكيلية خوفا عليها من الانقراض، ينقل الغزالة إلى قصته رملة الزقرار ويوثق مسرحية جالو في لوحة بديعة وكأنه يدرك أن هذا الجمال الناشز في أرض الخراب ذاهب إلى الزوال. كان يغرف الشعر من مناطق عميقة في نفسه، تتفاعل فيها السليقة مع المعرفة، ويسكبه في نثره ولوحاته وفي ارتجاله للكلام حين يتحدث بهدوء أو بغضب.
وحقيقة، رضوان في كل مسيرته لا يتكئ إلا على رضوان ، ونرجسيته الجميلة تنبع من هذا الاحتشاد الداخلي، ومن قدرته على أن يقول ما يدور بباله دون مواربة أو تحفظ ، يتكلم بالطريقة نفسها بغض النظر عمن أمامه ، فيجعل لكل حديث حادث ، لأنه عاش يقول ما يفكر فيه ولا يفكر في ما يقول . رضوان الولوع بالفلك وملاحقة الحدس عبر النجوم ، وباليوغا، الشاك في كل شيء والموقن بأن الحياة رمية نرد، لا يجد صعوبة في التصالح مع ذاته بقدر ما لا يجد سهولة في حياته اليومية التي لا تخلو من تصادم دائم بين شوقه للآخرين وعزلته المختارة، ولذلك كثيرا ما يعلو صوته دون أن يتخلى عن حس الفكاهة، ويشتم دون أن تخونه الفصاحة، شاهرا سبابته المضمخة بالألوان في وجه كل ما يهدد سلام ريبته، وفي وجه الأقلام المزيفة والأدعياء ومرتزقة الكلام ، فيتحاشى الجميع لسانه، لأنه كاشف بارع عما يدور خلف الظاهر، وللنفاق الذي يعشش خلف الابتسامات الواسعة . ولأنه لا يماري في قول الأمور كما هي والمحتفي بما يستحق الاحتفاء رغم ندرته، فليس لرضوان حلول وسط ، فإما أن يكتب قصة تحترم نفسها أو لا يكتب، ولا يتورع عن عقاب النص الذي لا يرقى لنرجسيته بتمزيقه فورا، وهكذا هو في الرسم ، والمسرح ، والسيناريو ، أو أي فن طرق بابه بثقة عالية تجعله يتحدث عن رضوان المبدع وكأنه يتحدث عن شخص آخر، وهذا سر نرجسيته إزاء الفن المتناغمة مع تواضع حد الزهد في حياته اليومية.
حينما كتب نصه المسرحي “حمودة الزاهي” اكتشف في النهاية أنه مفصل بحجم أكبر من حدس المخرج الليبي، فما كان أمامه إلا أن يُقدم هو نفسه على محاولة إخراجه وأداء دور البطولة فيه، غير أنه في النهاية اكتشف أن المناخ الفني برمته مضاد لحلم أن تظهر هذه المسرحية؛ التي كتبت في غير مكانها وغير زمنها، للنور، فطرد الممثلين وغادر إلى محترف آخر لا يشاركه فيه أحد طقوس توحده، ودائما كان رضوان لا يتكئ إلا على رضوان ، مغنياً خارج السرب وهو في قلبه، وطالقاً قدميه للريح كلما ضاق به المكان ، نابشاً عن أحلامه في بوح النجوم وسرد الكهوف الليبية وعلب الألوان المتناثرة في بيته الريفي التي تسميها أمه (زواقات) فينفعل ويقولها لها هذه ألوان وليس زواقات يا أمي، يشتاق إلى امه فيهديها نصه، باعتبارها الناقدة الأولى للوحته: حين وجدته يوما متوترا وغاضبا بسبب لوحة حارنة، هدأت من روعه قائلة: الرسمة يا اوليدي كيف الطبخة، مرة تصيب ومرة تفسد.
بعد أن أجرى عملية جراحية على حنجرته ليبدأ مرحلة “أن لا يُحدث اليوم إنسيا” وبدأ تخاطبه مع الآخرين عبر قصاصات ورقية يكتب عليها مشاعره، أخبر إحدى صديقاته بقصاصة تقول: أنه يود الرحيل. وحين تساءلت عن السبب كتب لها : هذه بلد لم استطع العيش فيها بعشر لسانات فما بالك بدون لسان. يرحل رضوان ويجوب العالم لكنه كل مرة يعود إلى مسقط غربته في معبده القديم بالكدوة التي يفخر بأنها سجلت أعلى درجة حرارة فوق الأرض في التاريخ. يعود لأن في قرارة نفسه يعرف أنه منفي مثل فانجوخ أو سيوران عن العالم كله، لذلك لا معنى بالنسبة له لمفردة المنفى، وبالتأكيد كان يصغي بانتباه كعادته حين أخبره صديقه يوسف القويري، وأخبرنا فيما بعد، أن المجتمعات المتخلفة تقذف بطلائعها إلى المنفى النفسي.
يصوم رضوان عن الكلام لكن لوحاته لا تكف عن الكلام بلسان طفل يتعرف على الكائنات حوله لأول مرة .
لقد كتب رضوان القصة بحرفية عالية واشتهر بها لكنا لا نستطيع أن نقول عنه قاصاً أو أديباً وكفى، لأنه كينونة كاملة تربط شتى الفنون بوشائج سرية تشي بمفهوم الكائن الجمالي الذي لا يجد حدودا بين صنوف كل ما هو استاطيقي. لا ثمة جسور يشيدها القصد بين هذه الفنون، لكنها مخلوطة في داخله بكيمياء تجعل من كل فن لسان حال ومختبر معرفة. كيمياء تجعل من القصة ملعبا للشعر وللتشكيل، ومن اللوحة لحظة انتباه بصري حاد يستمد طاقته التعبيرية من خبرة الحواس التي يثق في حدسها.
كتب القصة بدقة وحنكة وبتقطيع مشهدي يستلهم فن السيناريو، وعبر بناء معماري محكم ومقتصد، وبحبكة لا يمكن معها الاعتداء على مفردة منها أو سياق، لأنه يعرف أن البناء سينهار فوراً، وهذا ما يجعله يغضب ويشتم، بل ويذهب إلى الناشر فوراً موبخا، حين يتشوه سياق أو تسقط مفردة من الطباعة. وهذا الانتماء العضوي لنصه هو ما جعله يحفظ نصوصه القصصية عن ظهر قلب، فتتحول أمسيته القصصية إلى أداء مسرحي يستحضر فيه كل الفنون.
التشكيل سمة هامة من سمات قصة رضوان تنضاف إلى كل العدة البصرية التي تقف خلفها وفيها، لذلك حين خاض غمار الرسم متأخرا بعض الشيء لم يكن مفاجئاً بروز لوحاته الأولى كملمح (رضواني) يخصه في التشكيل الليبي على الأقل رغم ثقته بأنه يركض ضمن مضمار عالمي لهذا الفن الذي يعرف تاريخه وأسراره جيدا. ومنذ البداية اتكأت لوحته على خبرته في الاختزال أو التقشف اللوني الذي ينبري لثيمات عميقة دون ثرثرة أو حشو. فالعمل الفني بالنسبة له خلق له سيرته الجينية الكفيلة باكتمال كينونته، وأي استطراد أو حشو سيكون نوعا من التشوه الخَلْقي للوحة، كما كان للقصة.
في لوحته “الجمل الهارب من إرادة اللصوص” التي يشي اسمها بالمرسل، يهرب المنحنى من الدائرة تاركا خلفه الزوبعة، يكتسب المنحنى لون الأفق المطلق لأن المرسل قيمة أخلاقية مطلقة ومخترقة للمكان والزمان، وآنية عبر اللون الترابي العالق بحواف الزوبعة ، تنفي اللوحة الحدود باسترسال اللون وتدرجه اللامحدود.
عانق بوشويشة الألوان بحميمية عالية فتبقى على ملابسه وعلى رؤوس أصابعه، معتمدا على ذخيرته الثقافية وعلاقته الوشيجة بتاريخ الفن وتاريخ الروح الكوني اللذين يتفاعلان داخله ، وعلى تجربته الروحية الخاصة لتي امتصت كل هذا الخيال الإنساني في ذروة البحث عن إجابات لأسئلة وجودية شائكة، ما أنتج في النهاية لوحته الزاهدة بالمفهوم الصوفي التي يشكل الذوق ـ بالمفهوم الصوفي أيضا ـ ميكانيزم حلولها في اللون أو حلول اللون فيها. يتصاعد إيقاع الدفوف من لوحته “الحضرة” وكأن الألوان التي يحل فيها الجسد تتماوج في لحظة وجد خلف ضباب بخوري يشبه سديم المطلق أو شفافية الروح المأخوذة بتكرار الإيقاع، وكيف للوجد أن يحضر إلا بالتكرار.
يقول عن لوحته حرائق البوعزيزي في رسالة خاصة : كنت فى مدينة سوسه التونسية يوم اشتعال البوعزيزي..وتذكرت على الفور..فى حرب فيتنام كيف كان الراهب البوذي يحترق وهو فى غاية الهدوء ! وكانت تلك هي الصفحة الأولى من كتاب الربيع العربي.. وبدأ (فيس بوك على كل ظالم ) ، وعدت إلى ليبيا..وكانت ثورة25يناير فى مصر تحت شعار ( عودة اﻷمل ).. …ثم بدأت مرحلة ” الشعب يريد إسقاط النظام “… …كان إحتراق البوعزيزي هي الشرارة الأولى… وبقية القصة عندك… اللوحة رسمت فى طرابلس.
يحدق في الأسطورة الراهنة أو بمعنى آخر يؤسطر الراهن بمخيلة عمرها ألاف السنين، ومن رسوم الكهوف الليبية القديمة يستعيد الشغف الإنساني القديم بتوثيق الحالة وإرسالها ضد سطوة الزمن تعويذةً في وجه الزوال، ومن تلك الخطوط المتقشفة تكتشف ريشته سلمها الموسيقي الأصيل ومقامها اللوني الجديد، وهي تستدعي ذاكرة المكان القصي، وتستلهم شغف الإنسان البدائي بتجسيد لحظة انتباهه للمحيط وللوقت الذي يأمره بمخاطبة القادمين بعد ألاف السنين . يبحث رضوان في تلك الكهوف وفي النقش على الصخر عن فكرة الخلود في اللوحة، وعن جذور نزوة مقارعة الموت؛ منذ جلجامش وحتى نار البوعزيزي التي مازالت وستظل تشتعل كنار مجوسية. وسواء كان محدقاً في الأفق أو كتاب النجوم أو محدقا تحت أقدامه في الدروب المتعرجة، تكتسب لوحاته فضاءً تتدرج فيه الألوان الدافئة والباردة، ليجعل من هذه المسافة بؤرة اكتظاظ بما على اللوحة أن تقوله أو تبوح به أو تتساءل بشأنه، وينأى عن اللوحة الخرساء برؤى لها (عشرة لسانات) ترطن بها.
تتبادل الطبقات اللونية في لوحة “حرائق البوعزيزي” حوارها الداخلي وتطغى برودة اللون الأصفر الذي يشي ببرد يشبه برد نار إبراهيم، أو بهدوء يشبه هدوء الراهب الفيتنامي، لأن الاحتراق هنا غير مجاني ويكسب استثنائيته بكونه مدرجا في مدونة التاريخ، أو في صناعة التاريخ الناهض من رماد الأرواح المحترقة بورع وهدوء.
مثلت نار فانجوخ في لوحته حقول القمح اشتعال الحقل بلهب السنابل حين يبلغ النضج ذروته، أو ما تم تأويله فيما بعد بان الواقع الأوروبي جاهز للثورة، أما نار البوعزيزي تشتعل بوهج حقل خلفه أفق يتشقق وطوفان قادم كأنه موج من سنابل. الصورة مقلوبة ، وثمة اختلاف كبير بين أن يفضي النضج إلى الثورة وبين أن تفضي الثورة إلى النضج . يكتفي رضوان بالمفارقة غير أن السؤال الأصيل كامن في هذه المفارقة التي تنقلها لعبة اللون إلى ما يمكن أن نسميه استعارة رضوان الكلية تجاه المفهوم الدارج للاحتراق ، ذاك المفهوم الممتد ما بين نار الأسطورة والنار التي شم رائحة شوائها عن كثب وهو في تونس . هل كانت نار البوعزيزي بردا وسلاما ورضوان يرسمها بهذه النعومة اللونية وكأنها حقل زهور؟ أما أنها نار الناسك التي يتوضأ بها في معبد الرفض مثلما توضأ الحلاج بدمه.
سأكتفي بهذا القدر لأني بدأت ألهث، فالحديث عن رضوان الإنسان لا يختلف عن الحديث عن نثره أو لوحته، وهذا الحلول المتبادل بين الخالق ومخلوقه يحيلنا إلى استعارته الكلية تجاه تجربته التأملية الممتدة من مرسمه في (الكدوة) إلى معرض الإنسان الأول على جدران الكهوف الليبية.