العصيدة والعقيدة.. وعوايد هلنا
“هذا قنديل وقنديل فاطمة جابت خليل .. هذا قنديلك يا حواء يشعل من المغرب لتوا”.. أهزوجة المولد النبوي الشريف التي كان يتغناها أطفال كل حي ليبي، مع غروب شمس يوم “الموسم”، اليوم الذي يسبق ذكرى ميلاد الهدى محمد عليه الصلاة والسلام، إيذاناً بالبدء في مراسم الاحتفال بهذه الذكرى البهيجة، واليوم الأكثر بركة على العالم أجمع.
توقد الفتيات شموعهن ” الخميسة” غالباً من شعلات الأولاد المحمولة “القنديل”؛ لتنتشر الأضواء كل ما حل الظلام، في مشهد يتصارع فيه النور مع حلكة الليل، وتزداد ألسنة اللهب توهجا، كل ما ارتفعت أصوات الأولاد بالأهازيج.
تتعالى أصوات الرجال والشيوخ لتطير عبر نوافذ الزوايا والمنارات العتيقة، التي حافظت عبر الزمن على موروث يحكي حياة الأجيال البسيطة بفرحتهم يوم ميلاد خير الخليقة.. تسابيح وترانيم وموشحات، تملأ نفوس السامعين بالبهجة، وقلوبهم بالطمأنينة.
كلمات وأبيات شعر انتظمت وصفاً وتفصيلاً وتغزلاً في الحبيب المصطفى، عبارات تطرب لها النفس، تأتي بالسامعين من كل حدب وصوب، ليكتظ المكان، وتلتحم الأصوات البهية، مادحة خير البرية.
“الوشق والبخور،” يرتفع مع الصوت الجهور، ليزيد الانشراح، وتتسع الصدور ويفسح البراح.
الأمهات والجدات يجهزن الأواني، ويتمتمن بما حفظن من أهازيج وأغانٍ، تلهج ألسنتهن بذكر النبي، وكل منهن تفكر أيكون طبقها الذي أعدته زكياً أم شهيا؟.. تمتزج خيوط ” الرشدة” الرفيعة مع السمن البلدي،لتشكل توليفة عجز عن تفسيرها أمهر الطهاة، تزداد إعجازاً بعد أن تغطيها رقائق “البصلة” وتتناثر على سطحها الذهبي حبات الحمص،تحيط بكومة من لحم الخروف في مشهد لا يقاوم.
يعود الآباء وفي جعبتهم حلوى المولد و”الخلوط”، يهرول الصبية إلى منازلهم فرحين كل يريد نصيبه.
في الصباح، نصحو على رائحة السمن والزبدة والعسل والرب، وكل يضع ما يحب على ظهر “العصيدة” .. العصيدة دقيق وماء لا تكاليف ولا شقاء، أكلة شهية لا تخلو منها بيوت الفقراء والأثرياء على حد سواء.. اعتاد الليبيون أكلها في سائر الأيام، فضلاً عن أنها اقترنت بمباهج الاحتفال بقدوم المولود الجديد.. وربما هذا ما جعلها عادة الليبيين في صباح يوم ذكرى المولد النبوي الشريف السعيد، وكأنهم يحتفلون بميلاد النبي لقدومه للتو.. ما أسمح ديننا وما أحلى عاداتنا، بعيداً عن التشكيك، والطعن والتشويه في حقيقة العقيدة وارتباطها بالعصيدة.
هكذا كانت مظاهر الاحتفال بذكرى المولد النبوي قبل أن يخترق التطرف نسيج أفكارنا، هكذا كانت الفرحة قبل أن تغتالها غربان التشدد والتكفير، هكذا كنا، وهكذا سنظل.. وهذا قنديل وقنديل.. فاطمة جابت خليل ..
الرشدة والعصيدة وحلوى المولد .. عوايد هلنا .. هوية تراثية تتناقلها الأجيال .