الصين تبتكر أسلوباً مختلفاً لإدارة الاقتصاد
نوح سميث
داخل الولايات المتحدة وعدد من الدول المتقدمة الأخرى، ثمة 3 فلسفات لإدارة مسألة استقرار الاقتصاد الكلي، كانت كل واحدة منها حاضرة بصورة ما خلال فترة «الكساد الكبير»، ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
تتمثل الأولى في «الاقتصاد الكينزي» الذي يتمحور حول المحفزات المالية التي تأتي بشكل أساسي في صورة زيادة الإنفاق الحكومي. أما الفلسفة الثانية فهي «المدرسة النقدية» التي ترى أن إخراج الاقتصاد من حالة الكساد، مهمة البنك المركزي الذي بمقدوره تقليل معدلات الفائدة أو تنفيذ سياسات تخفيف كمي أو تخفيف صرامة السياسات المالية عبر صور أخرى.
وترى المدرسة الثالثة أن موجات الكساد ظاهرة صحية وطبيعية، وينبغي للحكومات ألا تحاول محاربتها. وقد جرى الترويج لهذه الفكرة الأخيرة من جانب أنصار فكرة التسييل أثناء «الكساد الكبير»، وتجدد الاهتمام بها في ثمانينات القرن الماضي، بل نالت نهاية الأمر جائزة «نوبل» التي فاز بها أحد كبار المروجين لها.
ظلت هذه التوجهات الثلاثة قائمة منذ فترة طويلة للغاية لدرجة تغري المرء بأن يخلص إلى أنه ليست ثمة توجهات أخرى ممكنة، لكنه من الممكن وجود سبيل آخر ناجع لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد بخلاف السياسات المالية أو النقدية، وربما تكون الصين هي من توصلت إلى هذا البديل الجديد.
على امتداد ربع القرن الأخير، تميز النمو داخل الصين بمستوى لافت من الاستقرار. وبالرغم من مرور الاقتصاد بموجات ازدهار وموجات انحسار، لم تسجل البلاد أي موجة ركود طوال هذه الفترة. وأيضاً، لم يتراجع نمو إجمالي الناتج الداخلي خلال هذه الفترة قط عن 6 في المائة.
بطبيعة الحال تبقى هذه أرقام حكومية، في وقت يتهم كثيرون الصين بتزوير الإحصاءات الصادرة عنها.
جدير بالذكر أن المسؤولين المحليين والإقليميين لديهم حوافز تدفعهم للإعلان عن معدلات نمو مفرطة في الإيجابية، بجانب أن الحكومة المركزية ربما تتدخل بتخفيف حدة الأرقام المرتبطة بإجمالي الناتج الداخلي من أجل تجنب هروب رؤوس الأموال.
حتى رئيس الوزراء الصيني نفسه، لي كه تشيانغ، سبق أن وصف الإحصاءات الاقتصادية الصينية بأنها «مصنوعة يدوياً، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها». وعليه، عمد كثير من المراقبين المستقلين إلى بناء مقاييس خاصة بهم لتقدير النمو الصيني، معتمدين في ذلك على بيانات مثل معدلات استهلاك الكهرباء، وذلك لتكميل الإحصاءات الرسمية، إلا أنهم جميعا تقريبا خلصوا إلى أن الصين لم تشهد نموا أقل عن مستوى الصفر في السنوات الأخيرة، رغم التباطؤ البسيط الذي شهده عام 2015.
ويبدو هذا أمرا لافتاً، نظرا لأن غالبية الدول التي تحقق نموا سريعا تتعثر عند نقطة ما. على سبيل المثال، خلال فترة صعودها الاقتصادي في القرن التاسع عشر، عانت الولايات المتحدة كثيرا من موجات الذعر والكساد. وأيضاً، تميز النمو الاقتصادي في اليابان خلال فترة ما بعد الحرب بالسرعة والثبات، لكنه عانى موجتي ركود خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي.
على النقيض نجد أن الصين نجحت في الصمود أمام «الركود الكبير» وأزمة الفقاعة والانهيار التي تعرضت لها سوق الأسهم، دون انزلاق معدلات النمو ولو مرة واحدة باتجاه السالب.
إذن كيف حققت الصين هذا الإنجاز؟ بالتأكيد جرى استغلال السياسة النقدية كأداة لتحقيق الاستقرار، لكنه تبقى حقيقة أن التحركات المرتبطة بمعدلات الفائدة لم تكن دراماتيكية، فخلال فترة «الركود الكبير»، شهدت الصين عجزا بلغ قرابة 7 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي عام 2009.
وسريعا ما تلاشت الحوافز المالية، وحققت الصين فائضا ضئيلا العام التالي، بالرغم من أن السياسة المالية ربما كانت فاعلة، فإنها لا تشكل القصة برمتها.
علاوة على زيادة الإنفاق، أصدرت الصين توجيهات إلى البنوك لتقديم مزيد من القروض. وقدر البنك الدولي أن الاعتمادات المصرفية الإضافية شكلت 40 في المائة من الحوافز الصينية. وجرى تنفيذ معظم عمليات الإقراض عبر 4 بنوك كبيرة مملوكة للدولة. وتوجهت الأموال إلى البنية التحتية والعقارات وجميع أنماط مشروعات الشركات التي اضطلعت بها مؤسسات مملوكة للدولة. ورغم أن هذا الإقراض غالبا ما يكون بمثابة إهدار ويضر بالإنتاجية، فإنه ينقذ في الوقت ذاته الاقتصاد من السقوط بسهولة من على شفا جرف، خاصة أن الركود الاقتصادي كان يمكن أن يشكل تهديدا للاستقرار السياسي للبلاد.
خلال سنوات منذ وقوع الأزمة، لجأت الصين مرارا وتكرارا إلى سياسة الاعتمادات بهدف تحقيق استقرار في الاقتصاد، وشجعت البنوك على تقديم مزيد من القروض عندما كانت هناك مخاطرة حدوث ركود، وعلى تقليص الاعتمادات عندما ظهرت مخاطرة خروج الفقاعات العقارية عن السيطرة.
عام 2011 فرضت الحكومة قيودا على الإقراض من أجل الحد من فقاعة إسكان ممكنة، وكذلك في عامي 2013 و2017.
وعام 2014 خففت الحكومة عمليات الإقراض المصرفي لتحفيز الاقتصاد.
وعام 2016 قلصت متطلبات الاحتياطي المرتبطة بالبنوك لتحفيز توسيع نطاق الاعتمادات.
وفي الفترة الأخيرة وفي مواجهة تهديدات حرب تجارية مع الولايات المتحدة، خفضت الصين متطلبات الاحتياطي من جديد، وشجعت على الإقراض عبر عدد من الإجراءات الأخرى.
ومع أنه من الصعب الحصول على صورة واضحة لمجمل سياسة الاعتمادات الصينية؛ لوجود كثير من العناصر التي تدخل في صياغة السياسة، ولأنها يجري وضعها وتنفيذها خلف الأبواب المغلقة، يبدو أن البلاد تتبع توجها جديدا حيال مسألة تحقيق الاستقرار على صعيد الاقتصاد الكلي. ويركز هذا التوجه على أسعار الأصول وتمويل البنوك والعقارات والسيطرة الإدارية على البنوك.
ربما ينظر كثيرون من خبراء الاقتصاد إلى مثل هذا التوجه باعتباره يخص حالة بعينها وعشوائيا ويقوم على التدخل في الاقتصاد. باختصار، لا يليق بما ينبغي أن تعتمد عليه دولة متقدمة. ومع هذا، يبدو أن هذا التوجه تمكن من دفع الصين إلى اجتياز كثير من الأزمات بنجاح، مع تجنبها باستمرار الانهيار المالي الكارثي الذي طالما حذر منه مراقبون من الخارج طيلة سنوات.
هل من درس مستفاد هنا بالنسبة للاقتصاديات المتقدمة؟ إن دولا مثل اليابان والاتحاد الأوروبي تستخدم كثيرا من التمويل المصرفي. أما الولايات المتحدة فتميل نحو الاعتماد بدرجة أكبر على أسواق السندات، لكن البنوك خاصة الكبيرة منها تلعب دورا بالغ الأهمية في قطاع العقارات الذي يحمل أهمية كبيرة للغاية لدورة الأعمال.
والتساؤل هنا: هل يمكن للدول المتقدمة خلق مزيد من الأدوات لدفع البنوك نحو زيادة الإقراض خلال فترات الركود وتقليصها أثناء ظهور خطر الفقاعات؟ أم أن النموذج الصيني لا يمكن محاكاته؟ ليس هناك سبيل لمعرفة الإجابة عن هذين التساؤلين، لكن خبراء الاقتصاد الكلي ينبغي أن يفكروا في سياسات الاعتمادات باعتبارها مكملا مهما للأدوات النقدية والمالية التقليدية لمحاربة الركود.