الصدف والعبر الصعبة.. قصتي مع الإعلام
د. نبيل الخطيب
حملت شهادتي الجامعية، وقصدت جريدة القدس واثقاً أن النجاح حليفي. فقد تأبطت شهادة كتب عليها: دكتوراه في الصحافة.
ودعتني أمي بأكثر الدعوات دفئاً.
كنت واثقاً من أمري حد السذاجة، سلمت شيخ الناشرين في فلسطين محمود أبو الزلف ما في جعبتي من شهادات، فابتسم بسخرية وأيقظني من وهمي، قائلاً: «هذه الأوراق لا تعني لي شيئاً. اذهب إلى الشارع، انجز تقريراً، يُظهر مهاراتك، واتركه عند الاستقبال، وإن كنت تخشى الغبار على حذائك، فلا فائدة من شهادتك».
غادرته، وتعلمت الدرس الأول: العبرة في المهارات وليس في التنظير عن المهنة.
كان الدرس الذي شكل لي بوصلة، عندما كنت أكتب كل خبر، وكذلك عندما صغت كل كلمة في برنامج إعداد الصحافيين في جامعة بيرزيت لاحقاً.
عدت بعد سنة إلى أبي الزلف منتصراً، حينما استدعاني، وزميلي الصحافي محمد النوباني، وكنا أسسنا «دكاناً» للصحافة اعتبرناه «وكالة أنباء محلية».
فقد كان أبو الزلف يقرأ إنتاجات «الدكان» في صحيفة «الشرق الأوسط»، ويعيد نشرها، فنلنا الاعتراف المحلي، بعد اعتراف جريدة العرب الأولى بإنتاجاتنا.
إلى أن جاء يزورني الزميل ماهر الشلبي يوماً، ليس لتسجيل حديث عما يجري في فلسطين وحولها، كعادته، ولكن ليعرض علي عملاً مؤقتاً في مركز تلفزيون الشرق الأوسط «إم بي سي» في لحظة تحول سياسي، في البلاد.
فكان أول يوم عمل لي في المؤسسة، هو يوم توقيع اتفاق أوسلو بين ياسر عرفات وإسحق رابين في البيت الأبيض سبتمبر (أيلول) 1993.
العمل المؤقت في «إم بي سي» استمر لربع قرن.
وهكذا بدأت أجوب البلاد ولكن هذه المرة، بصحبة كاميرا يحملها زميلي نضال حسن، منذ اليوم الأول، يحميني من رصاصات طائشة، تارة، وأبعده عنها أنا تارةً أخرى، وذلك بعد أن أحظى بمكالمة مع رؤساء التحرير الزملاء بيير غانم أو ماهر عبد الرحمن أو نخلة الحاج من لندن، نتفق فيها بشأن ما ننتجه ذلك اليوم.
تعلمنا حينها، أن الناس تفر من الخطر بغريزتها، لكن الصحافيين يهرعون إلى الخطر، لتقصي تفاصيل الحكاية وتوثيقها.
كنا نعتقد أننا – في مهنتنا – نعيد تشكيل المفاهيم، ومصائر البشر.
إلى أن اقتربت يوماً وزميلي نضال من شخصية غير عادية… هو «صبري غريب» وكان من أكبر ضحايا الاستيطان في القدس، علمنا الرجل درساً قاسياً بشأن ما ندعيه عن أنفسنا في هذه المهنة.
كان صبري غريب يحرث أرضه، عندما اقتربنا منه، وعلى غير عادته رد بغضب، أن نتركه بحاله. وبعد حوار، أفصح عن سبب غضبه: «أجريت مئات المقابلات التلفزيونية، لأشرح للعالم كيف يسرق المستوطنون كل يوم قطعة إضافية من أرضي، وما الذي جرى؟ لا شيء… الصحافيون يأتون بحثاً عن قصة مثيرة، والصحافة لا تغير حالي في شيء، فاخرجوا من هنا».
عاد صبري غريب وسمح لنا أن ننتج حكايته تلفزيونياً. لكن كلماته تحولت إلى صراخ عاتب في أذناي إلى اليوم، تشعرني بعجز الصحافة أحياناً كثيرة، عندما يكون الواقع أقسى من كل شيء. فالصحافة ليست عصاً سحرية، والصحافي ليس صانع معجزات، ولكن ربما هو كمن يغزل سجادة على مدى السنين، لتظهر نتيجة عمله إن كان في عمله خير.
فأهمية دور الصحافي تكمن في تبيان ما يجري حوله (إن كانت نيته تِبْيان ما يجري حوله، وهنا قد يطول الحديث).
في ذات السنين، قُدِرَ لي أن أساهم في تأسيس معهد الإعلام لتأهيل الصحافيين، ودائرة الصحافة في كلية الآداب في جامعة بيرزيت. وأن أديرهما لعشر سنين، بالتوازي مع عملي الصحافي. وكانت كلا المَهمتَيْن تُغني الأخرى. وكل سنة تمر، كنت أشعر بفخر عندما أرى نجاحات التلاميذ في جامعة بيرزيت أو معهد الإعلام الأردني الذين سرعان ما صاروا زملاء المهنة، مراسلين في الميدان، ومديري مؤسسات صحافية وخبراء علاقات عامة… يدخلون الغبطة إلى قلبي، وإن كانوا يشعرونني بِكِبَرْ السن، أكثر مما تشعرني به المرآة التي أنظر إليها في الصباح.
جاءني بعد سنين اتصال مفاجئ من مدير الأخبار الزميل نخلة الحاج، وكانت المؤسسة انتقلت إلى دبي. وقال: «هلا تنتقل إلى العمل هنا لبضعة أشهر». وكانت حينها قناة العربية لها من العمر عام ونيف.
لبيت الدعوة، والأشهر المؤقتة استمرت ثلاث عشرة سنة، عملت في غالبها معه وتحت إدارة الأستاذ عبد الرحمن الراشد.
كنت أعتقد أن «الانزواء» في مطبخ التحرير، سيكون استراحة مؤقتة، من المواجهات القاسية في الميدان. لكن الأستاذ علي الحديثي واجهني في ابتسامة، وربت على كتفي قائلاً: «كنت تتابع فلسطين، الآن أصبح العراق ولبنان والجزائر والسودان وباقي دولنا على قائمة المتابعة، كنت تنتج تقريراً في اليوم والآن على طاولتك تقرير كل دقيقة للمتابعة»، ودعا لي بالتوفيق.
فـ«غرفة الأخبار» لم تكن يوماً عن الأخبار فقط. فكما تقلق لضمان جودة خبر أو تقرير صحافي، تقلق أكثر على من يعد الأخبار في الميدان، كي لا يتعرض لاغتيال أو اعتقال أو خطف في العراق أو فلسطين أو الفلبين. كما كان مع الزميلة الخالدة أطوار بهجت، والزميل جواد كاظم أو بكر عطياني وغيرهم العشرات.
أمضيت نصف عمري المهني في الميدان، ونصفه الآخر في «مطبخ» التحرير، ونصف وقتي بالتوازي أدرت معهداً للإعلام ودائرة للصحافة ودرست فيها، تعلمت في كل يوم، من كل امرأة ورجل تزاملت وإياهم، دروساً تشعرني كل يوم، ومن جديد أن هناك الكثير مما أتعلمه في مهنة تغيرت رأساً على عقِب في زمن جيل واحد. لا ثابت فيها إلا البحث عن المحتوى الملائم وتقديمه على نحو مشوق، ولا بديل عن احترام عقل ومشاعر الجمهور المتلقي، ولا مناص من أن ينهل الواحد منا من نبع المعرفة كل يوم، عله يجيب على جزء يسير من الأسئلة الصعبة التي ترشقنا فيها الحياة والمهنة كل دقيقة.