الصخب والحقائق
سمير عطا الله
منذ صدور مذكرات عمرو موسى، (كتابيه)، والجدل حولها قائم بأقلام الكتّاب المصريين من جميع المراتب والأهواء. والنتيجة الأولى لهذا الصخب أن الطبعة الأولى من المذكرات نفدت، وتعمل «دار الشروق» على دفع الطبعة الثانية.
السبب الأهم للصخب أن عمرو موسى روى أنه يوم كان دبلوماسياً ناشئاً في سويسرا، كان موظف مصري يحمل إلى الرئيس عبد الناصر، المصاب بالسكري، كمية من الجبنة البيضاء. قامت الدنيا. إنها مؤامرة لتشويه صورة عبد الناصر المتقشف، مع أن قالب جبنة «طبية» لا يؤثر في صورة أي إنسان عادي. فالموظف لم يكن يحمل الشوكولا السويسري، أو نوعاً من الساعات، بل مجرد نوع من الجبنة لا وجود له في القاهرة آنذاك.
وحدث ضجيج آخر مثله لأن عمرو موسى ذكر أن الراحل أسامة الباز كان يحب أن ينادى بالدكتور، وهو ليس بدكتور. وفي اعتقادي أن «الدكتور» في أسامة الباز كانت آخر مزاياه. فلا ندري عدد مئات الألوف من الدكاترة في مصر، لكن كان هناك أسامة الباز واحد بخُلقه وتجربته ورؤيته وتواضعه.
لكن المذكرات مذكرات. وهي ما يتذكر صاحبها، وليس ما نريده نحن أن يتذكر. وجميع الذين ناقشوا عمرو موسى، أو حملوا عليه، لم يقدموا نفياً واحداً لما روى، بل أرادوه أن يزين ويجمِّل ويحوِّل كل شيء لإرضائهم، وليس لإرضاء الحقائق والتاريخ.
مذكرات عمرو موسى مكتوبة في صدق غير مألوف، وهذا غير مألوف في المذكرات العربية: ومكتوبة بأمانة ودقة في التدوين. ولا شك أنه كان يعرف أكثر من أي إنسان آخر ما سوف يثار حولها، لكنه اختار الحقائق، سواء كانت جبنة بيضاء، أو أنه اكتشف أن له في فرنسا أخاً يدعى بيار ذهب للبحث عنه والالتقاء به.
تُكتب المذكرات عادة من أجل الوجدان. وجدان الكاتب، لا القارئ. وقد وضع كبير المفكرين جان جاك روسو مذكراته تحت عنوان «اعترافات». نقاد عمرو موسى أرادوا منه أن يكتب مذكراتهم، وأن يعبِّر عن مشاعرهم ومواقفهم، وأن يستبدل بالحقيقة الصعبة كذبة جميلة.
الناصريون أرادوا مذكرات ترضي عواطفهم، فوجدوا فيها حرقة 1967 وشكوك مظاهرات 9 يونيو (حزيران)، وخطاب الاستقالة. ومؤيدو السادات خذلهم صاحب المذكرات. وبرغم محبته لحسني مبارك، توقف عند مظاهر الفساد وسلوك التوريث. المذكرات يُناقَش كذبُها، لا صِدقُها.