الشلطامي ونزيف الذاكرة في الظلام
سالم العوكلي
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي في إحدى زياراتي لمدينة درنة أسمعني أحد الأصدقاء شريط كاسيت، كان صوت حزين يتدفق منه بقصائد شعرية أسمعها للمرة الأولى، ولأننا جيل نشأ في زمن كان فيه الشعر العربي في المتن، ويصعب الحصول على كتب ليبية، اعتقدت في البداية أن ما أسمعه تسجيلاً لأمسية شاعر مشرقي، حتى وصل إلى مقطع: رآك الناس في أحلامهم وأنا رأيتك في سما بنغازي، سألت الصديق عن الشاعر: فقال هذه قصائد للشاعر الليبي محمد الشلطامي بصوت الشاعر أحمد بللو سجين الرأي في ذاك الوقت. كنت متفاجئاً بهذا الدفق الشعري السلس، وتلك الغنائية العالية المفعمة بوجع مزمن، وبهذا الصوت الحزين الذي يحمل ألماً خفياً للشاعر بصوت هامس كأنه قادم من بعيد، عرفت أن هذا التسجيل كان قبل أن يسجن الشاعر أحمد بللو بأيام قليلة، والقصائد لشاعر ليبي من بنغازي سُجن في كل المراحل ..
ولم يكن الذي يفصل بيننا نحن جيل الثمانينيات عن الجيل الذي قبلنا الجدران فقط، ولكن حماس ذلك التوجه القومي الذي يعتبر عبارة أدب ليبي عبارة إقليمية تُكرّس مفهوم الدولة القطرية، فكل شيء لا بد أن يكون عربيا، ولذلك امتلأت المكتبات بالكتب العربية لكتاب وشعراء جلهم من المشرق ومن الصعوبة أن تجد كتابات ليبية، وانطلاقاً من ذلك الشريط الذي أسرني صرت أبحث عن كتب الشاعر محمد الشلطامي، حتى عثرت على ديوان تذاكر للجحيم ـ فقرأته بحماس بالغ وأنا فرح بشاعر ليبي النكهة يضاهي أهم الشعراء العرب الذين كانوا يسيطرون على الساحة، وبقي الشلطامي الصوت الذي يسند وجهة نظري كلما دخلت في جدال مع البعض حول الأدب الليبي، وكان معظم جيلي لا يؤمن أن هناك أي إبداع أو تميز ليبي، وبالتالي شكّل لي ديون الشلطامي محفزا كبيرا للثقة في الذات وفي هذه الأرض، وكنت كلما أقرأ لشعراء عرب مثل البياتي والسياب ودرويش اعتبره دون لا يقل عنهم موهبة والتحاماً بسؤال المكان والإنسان المنفي في وطنه، وكانت غنائيته العالية قريبة من وجداني عبر إيقاعها الذي يخلص لغنائية الشعر الشعبي المفتون به .. عرفت فيما بعد أن الشلطامي كان نجم الساحة الشعرية الليبية في تلك المرحلة ولكن نظراً لسني ولعزلتي في تلك القرية ولغياب الأدب الليبي الحديث عن المناهج لم أسمع به إلا عبر ذلك الصديق وذلك الشريط.
في عام 1987 كان لقائي الأول بالشاعر محمد الشلطامي حين أخذني الصديق الكاتب عبد الرسول العريبي إلى بيته، وفي صالونه المتواضع كنت وجهاً لوجه أمام شاعر مازال يسحرني، كان في غاية المرح بعكس قصائده شغوفاً بالتاريخ الليبي وهو يلتقط منه بعض المفاصل الشعرية وأحيانا الهزلية، حيث كان يتمتع بحس سخرية عال، كان اللقاء قصيراً نسبياً وكنت طيلة الوقت لائذاً بالصمت مستمتعاً بهذا الجانب الخفي لتجربة شعرية تعيد للقصيدة تاريخها ونكهتها الليبية، وكنت أتلمس سرّ هذا التميز الذي جعله مثل الصادق النيهوم نجماً في شارع ليبي مازال في تلك الفترة يحارب الأمية ويعمل بمثابرة على اكتشاف هويته.
بعد عزلة طويلة عاشها الشاعر محمد الشلطامي ابتعد فيها عن الوسط الثقافي وفعالياته المختلفة شارك عام 2009 في أمسية شعرية ضمن مهرجان الأسطى للفكر والفنون الذي كانت تقيمه جمعية بيت درنة الثقافي، صدح خلالها بعديد القصائد التي جابه بها يوما بداية تشكل الاستبداد، وحولته إلى شاعر مرحلة كانت كل الانتفاضات الطلابية تستلهم روحها من قصائده، وحضر جمهور غفير تلك الأمسية التي يعود فيها الشلطامي إلى التفاعل مع الجمهور مباشرة بعد عقدين من اعتكافه داخل النص وبعيدا عن الجمهور، وكانت قصائده مازالت تحتفظ بطزاجتها التي لن تجف لأن سؤاله الأصيل هو الحرية، ذاك الحلم الكبير الذي تغلغل في كل شعره دون أن يتحقق أمامه، ولم تعطِ الحياة مساحة له كي يعايش انتفاضة الليبيين من أجل الحرية حيث رحل في مارس 2010 قبل أن يرى قوة البشر المستمدة من حب الجمال التي طالما حلمت بها قصائده، وإن كان للظلام دائما مكان وللذاكرة نزيف، وهو القائل:
فأشعرُ أَنِّي
أَنا الشمس والبحرُ،
والبشرُ المستمدّون قوَّتَهم
من بهاءِ الجمالِ
ومن عبق الطِّين والعشب والطَّلِّ
حتى إذا كدت أغمض عينيّ
ينزفُ شريانُ ذاكرتي في الظَّلامِ