الشعبوية فقاعة وليست ظاهرة
مأمون فندي
«الشعبوية قادمة وستكتسح الغرب»، هكذا أعلن أهل الرأي بعد نتيجة استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو (حزيران) 2016، الذي جاءت نتيجته مؤيدة للخروج (51.9 للخروج و48.1 للبقاء).
ظن الكثيرون، ومنهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أننا أمام ظاهرة شعبوية يمينية تكتسح أوروبا وربما العالم. لا غرو فقد كانت المؤشرات التي تبشر بازدياد في تيار الشعبوية كثيرة. شعبية مارين لوبان في فرنسا، وهيدر في النمسا، وفيلدرز في هولندا. ظن البعض أيضاً أن فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية في أميركا هو دليل آخر وربما دامغ على أن تيار الشعبوية سيكتسح الغرب. احتمالية تحَسَّب لها الجميع، وعدّوا لها العدة، ولكن نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية، الأسبوع الماضي، ومن قبلها فوز إيمانويل ماكرون في فرنسا، يبرهنان على عكس ما كان يعتقده الجميع، بمن فيهم رئيسة وزراء بريطانيا نفسها التي دعت إلى انتخابات مبكرة، واستخدمت في حملتها خطاباً شعبوياً ظناً منها أن هذا سيمكِّنُها من الفوز بأغلبية، وجاءت النتائج عكس ذلك، حيث خسر المحافظون 18 مقعداً، مما أفقد رئيسة الوزراء تيريزا ماي الأغلبية وفرض عليها الدخول في تحالف مع حزب صغير لتبقى في موقعها رئيسةً للوزراء. سلوك جعل كثيرين، حتى من داخل حزبها، يدعونها للاستقالة.
الانتخابات البرلمانية البريطانية وهزيمة تيار الخروج من أوروبا هزيمة لما ظنه البعض تياراً كاسحاً من الشعبوية سبقتها هزيمة مارين لوبان في فرنسا لصالح رئيس وسطي معتدل. كل هذا يشير إلى أن تيار الشعبوية هو مجرد فقاعة وليس ظاهرة. نتيجة الانتخابات البريطانية وهزيمة التيار الشعبوي جاءتا حاسمتين في التأكيد على ذلك.
يتعجل المحللون كثيراً في إطلاق الأحكام على الظواهر دونما قراءة لمحركات الأحداث، إذا كانت أصيلة وجوهرية أم ثانوية وفرعية. فإذا أخذنا في الاعتبار ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية بعين فاحصة بعد انتخابات الرئاسة نجد أن الشعبوية أو حتى اليمين المتطرف لم يكن تياراً كاسحاً، بل كان هامشاً مرجِّحاً لا غير، أي أن كتلة الديمقراطيين كانت كما هي، وكذلك كتلة الجمهوريين، الفارق كان زيادة في نسبة خروج الرجل الأبيض، حيث صوت 53 في المائة من الرجال البيض لصالح ترمب، وخذلت المرأة البيضاء السيدة هيلاري كلينتون وكان كل هذا التصويت العرقي انتقاماً من سياسات باراك أوباما.
ما حدث في بريطانيا وفرنسا وبقية أوروبا يوحي بأن التهليل لصعود اليمين (وكذلك الموجة الشعبوية المحمَّلَة بالكراهية ضد كل ما هو ليس أبيض) كان مبالغاً فيه. بعد فوز ماكرون في فرنسا وبعد نتيجة الانتخابات البرلمانية البريطانية ينبغي على الجميع مراجعة أحكامه تجاه ظاهرة الشعبوية الغربية، بما في ذلك السيدة تيريزا ماي نفسها، التي راهنت على خطاب «إما أنا أو الفوضى»، في لغة غير مسبوقة بريطانيّاً حتى لقّنها المجتمع درساً بأن الديمقراطيات لا يحكمها الخوف فقط، بل يحكمها الأمل.
الشعبوية الأوروبية وبالدليل الآن لم تكن تياراً كاسحاً بل هي فقاعة انفجرت عند أول اختبار حقيقي في معادلة الخوف مقابل الأمل.
رغم أن الثلاثة أحداث الإرهابية الأخيرة في بريطانيا كانت توحي بأن تيار الكراهية لكل ما هو أجنبي سيتزايد، وأن نتيجة هذه الكراهية ستجعل تيار تيريزا ماي كاسحاً، وتحصل على أغلبية مطلقة، فإنه رغم كل هذه الأحداث التي تحبس البشر في سجون الخوف، استطاع تيار الأمل الذي قاده الشباب التابعون لكوربن أن يحقق نتائج ملموسة على الأرض.
تصورت تيريزا ماي ومعها المخططون الاستراتيجيون لحملتها أن الخوف سيغلب على هذه الانتخابات، ولأن نداءها لانتخابات مبكرة سيمنحها التفويض الكاسح للدخول في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن الرياح فجرت فقاعة الكراهية والشعبوية.
الدرس المستفاد هنا كما كان من قبل في الاستعجال والتنبؤ بصراع الحضارات هو التروي في قراءة المحركات الأساسية للأحداث وفرز الحب من القش. تنبأ صامويل هنتنغتون بصراع حضاري يأكل الأخضر واليابس بين الغرب والمسلمين والغرب والصين. كل هذا لم يحدث رغم أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 المروعة. كما تنبأ الكثيرون بموجة الشعبوية بناء على حدث واحد، وهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وها هي بريطانيا تصوت ضد ما صوتت له عام 2016.
الشعبوية والكراهية فقاعة انفجرت وليست ظاهرة، وهذا لا يعني أنه لن تخرج فقاعات أخرى على الساحة، ولكن يجب هذه المرة أن نتروى في أحكامنا ولا تأخذنا غرائزنا بعيداً عن معطيات الواقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية