الشاعر والفتاة الأرمنية
سمير عطا الله
قدّمت لي هذه السيدة كتابها وكأنها تقدم نسخة أخرى لكاتب آخر. مسكينة وطيبة هذه الغافلة عن أنه كان لمحمود درويش سحر على الأزمنة والأمكنة والصداقات، لا تفارقه مهما فارقها. كل شيء في محمود درويش كان شعراً وسحراً ومحبة. وما كتاب إيفانا مرشيليان «أنا الموّقع أدناه، محمود درويش»، إلا عرض لمجموعة لقاءات في باريس مع شاعر فلسطين. بدل تدوين اللقاء بالحبر، تكتبه إيفانا مرشيليان بزهر اللوز.
في حالات كثيرة تكون حكاية اللقاء مع نجم ما، أجمل من نص المقابلة. هنا، حكاية صبية أرمنية أحبت شعر محمود مذ كانت في الرابعة عشرة. وعندما دخلت كلية الإعلام سألها أستاذها، ولماذا اخترت الصحافة؟ فقالت من أجل أن أحاور محمود درويش ذات يوم. وها هي، في السادسة والعشرين، تلتقيه في باريس. يسألها عن عمرها فتجيب، فيقول ضاحكاً: «أنا أعبر إلى الخمسين في ساحات باريس، بين أشجار المنفى والحمام الرمادي». لكنه يحذرها: لا مقابلات. لم يعد لديّ ما أقول.
ثم، على طريقته، بين طيب السخرية وطيب المرارة، يقول بالعامية الفلسطينية التي تتخذ معه بعداً جمالياً إضافياً: «ولماذا أحاور فتاة من الأشرفية؟ لقد نثرتم الزهور على الإسرائيليين يوم طردونا من بيروت». وتجيب الفتاة الخائفة على حلمها بالمقابلة: «لست من الأشرفية. أنا من الشياح. وقد طردنا فصيل من فلسطيني من بيتنا. وهل تعرف ما هو الشيء الوحيد الذي حمله أبي؟ ديوانك، يوميات الحزن العادي. كان يقول إنك والرحابنة وفيروز أفضل من خدم القضية الفلسطينية».
يتظاهر هذا الساحر البارع بأنه لا يحب المدائح. لكن عينيه تبرقان عندما تقول له إنه سوف ينال نوبل ذات يوم. يلتقيان مرة أخرى تحت المطر وأضواء باريس المتكسرة. ويقول، كأنه يخاطب الضوء والرذاذ، إنه كان يريد أن يصبح رساماً، لا شاعراً. «لكن لم يكن لديّ ثمن أقلام ملونة. كان هناك قلم عادي وورق، فكتبت. غير أنني أحن إلى الرسم».
ويتذكر أمه، التي كانت تضربه كلما ضاع على طريق عكا. ولما كبر شاهدته برفقة رجال، فسألته من هم؟ قال لها إنهم الحرس. قالت: «انتبه يا محمود. إذا أرادت جهة قتلك، فسوف يقوم أحد هؤلاء بالمهمة».
«أنا الموقع أدناه محمود درويش» مكتوب بخط محمود، الذي يشبه خط نزار في الأناقة والوضوح والتحريك. (دار الساقي).