السياق الجغرافي والتاريخي لـ”مرافعة صبراتة”
كارلوس نورينا
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
نص أبوليوس الذي بحوزتنا، “مرافعة صبراتة” وثيقة تمثل النسخة المكتوبة للخطبة التي ألقيت سنة 158م، في مدينة صبراتة. ورغم أن عدة مواضيع في المرافعة هي فعلا عابرة للزمن ومجردة Universal، إلا أن طبيعتها صيغت، بطرق شتى، بفعل الزمان والمكان اللذين كتبت فيهما.
فالزمن هو منتصف القرن الثاني الميلادي، تلك الحقبة التي يتصور جيبون أن “ظروف النوع الإنساني كانت مفعمة بالسعادة والازدهار”. المكان إقليم يعرف بـطرابلس الذي كان حينها جزءا من الإقليم الأفريقي [البروقنصلي] التابع للإمبراطورية الرومانية. يمكننا التفكير في المرافعة من حيث هي نافذة تطل على هذا الزمان وهذا المكان – مخطط أصلي يمكننا من وضع خريطة لبلاغة أبوليوس في مواجهة بلاغة جيبون. ولكن، قبل قيامنا بحصر النص في هذا النمط الإجرائي، من الضروري أن يتوفر لنا حس مبدئي بسياقها الجغرافي والتاريخي. نأمل أن هذا السياق سيمنحنا فهما أفضل لحال صبراتة في ذلك اليوم من سنة 158م. عندما دافع أبوليوس عن نفسه ضد تهمة السحر.
إقليم طرابلس منطقة ضمن حدود ليبيا الحالية. مناخ هذه المنطقة صحراوي بالأساس. بيد أن الشريط الساحلي الطويل يتبع مناخ البحر الأبيض المتوسط. المدن الثلاث التي منحت المنطقة اسمها قديما هي: لبدة الكبرى (موطن الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس 193- 211 م) أويا (طرابلس الحالية عاصمة ليبيا)، وصبراتة. نشأت المدن الساحلية في إقليم طرابلس كمستوطنات تجارية فينيقية، وتشير المعطيات الأثرية إلى أن المنطقة تم استيطانها في الحقبة الواقعة عند نهاية القرن السابع حتى القرن الخامس قبل الميلاد، ومن المؤكد أن النمو التجاري لهذه المدن حدث تحت السيادة القرطاجنية خلال القرن الرابع والثالث قبل الميلاد. وعلى أي حال، ففي سنة 202 بعد الميلاد تكبد القرطاجنيون بقيادة حنبعل هزيمة هائلة على يدي كورنليوس شيبيو (سيدعى لاحقا الأفريقي)، وسنة 146 ق. م. دمرت قرطاج نفسها. هذا التدمير الذي لحق بقرطاج في نهاية الحرب البونيقية الثالثة (149- 146 ق. م) قضى على منافس تجاري مبين لمدن الساحل الطرابلسي. إذ بالإضافة إلى الزراعة والتجارة عبر الصحراء، ارتكز اقتصاد هذه المدن إلى درجة كبيرة على الاقتصاد البحري، وبذا فمن المؤكد أن يؤدي القضاء على عملاق تجاري مثل قرطاج إلى نمو الوضع التجاري لمدينة مثل صبراتة.
عززت الحرب مع يغورطا ملك نوميديا (112- 105 ق. م) والحرب الأهلية بين قيصر وبومباى (49- 46 ق. م) الحضور الروماني الدؤوب في شمال أفريقيا. إقليم أفريقيا البروقنصلية، الذي مثل تعزيزا للإقليمين القائمين حينها أفريقيا فيتوس (146 ق. م) وأفريقيا نوفا (46 ق. م) أنشئ ليس بعد 27 ق. م. كان هذا إقليما سيناتورياليا، حيث يحكم من قبل قنصل (مرشح لمنصب السيناتور، من مثل كلاوديوس ماكسيموس) وليس من طرف مندوب إمبراطوري كما كانت عليه الحال في الأقاليم الإمبراطورية مثل مصر. في الإدارة الباكرة تمتع إقليم طرابلس باستقلال فعلي. أكثر الجوانب أهمية في هذا الاستقلال هو أن هذه المدن لم تكن مجبرة على تسليم أرض لمستوطنين رومان، وكان ثمة فيلق واحد فقط متمركز في الإقليم بشكل دائم. سنة 40 ق.م تحولت رئاسة الفيلق من البروقنصل إلى مندوب إمبراطوري، ومنذئذ أصبح إقليم طرابلس خاضعا لشعبتين من الحكومة الرومانية: الإدارة المدنية Civil bureaucracy المتمركزة في قرطاج (التي استعمرت من جديد من قبل أغسطس) والفرع العسكري الموجودة قيادته في لامباسي في نوميديا.
خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين جرى دمج مدن إقليم طرابلس بشكل متزايد ضمن نظام حكم الأقاليم المعمول به من قبل روما. فمنحت مدينة لبدة الكبرى في بعض الأوقات خلال حقبة فلافيا (69- 96) وضع البلدية. أويا وصبراتة أصبحتا بلديتين في عهد آنتونيوس بايوس (138- 161م)، ربما في وقت ما أواخر العقد السادس من القرن الثاني الميلادي). كان مواطنو البلديات يتمتعون بالحقوق اللاتينية التي تسمح لهم، ليس فقط بإبرام عقود قانونية مع مواطنين رومان، ولكن أيضا بإبرام عقود زواج قانونية مع رومان. إضافة إلى ذلك، يصبح حكام البلدية مواطنين رومان كاملين عند توليهم منصبهم. ومع نهاية القرن الميلادي الثاني أصبح إقليم طرابلس يرسل عددا معتبرا من الشيوخ إلى روما. عملية الرومنة هذه وصلت إلى ذروتها الطبيعية سنة 193م، عندما قفز سبتيموس سيفيروس من لبدة إلى قمة الإمبراطورية.
تاريخ صبراتة نفسها معروف لدينا أساسا من خلال مخطوطات ومصادر أثرية. سلسلة الجرف الصخري على شاطئ صبراتة يحدد بوضوح موقع المدينة. من المشهور أن ساحل إقليم طرابلس يفتقر إلى موانئ ملائمة، لكن جرف صبراتة الصخري، الذي أضيف إليه لاحقا حاجز لكسر الأمواج، شكل ميناء طبيعيا. يعود تاريخ أول الأبنية الحجرية إلى النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد. أما مرحلة التوسع الكبرى فقد تمت في القرن الأول قبل الميلاد. ولعل هذا النمو ناجم عن تدمير قرطاج من قبل روما سنة 146 ق. م. واصلت المدينة نموها في القرن الأول الميلادي. بيد أن أواخر حقبة آنتوناين، حين ألقى أبوليوس المرافعة، هي التي تمثل أعلى مراحل ازدهار المدينة. فقد تنعمت صبراتة في هذه المرحلة بكل تلك المباني التي جعلت منها مستوطنة رومانية بشكل جلي: ساحة عامة، باسلكا*، حمامات، مسرح، ومسرح دائري. ولقد منحتنا الحفريات التي تمت بصبراتة فكرة جيدة جدا عما كانت تبدو عليه المدينة قديما.
إذن، كانت صبراتة سنة 158 م، وبالتعابير المعاصرة، “مكان أحداث”. فبموازاة برنامج البناء المزدهر حينها، أسهمت زيارة البروقنصل الروماني كلاوديوس ماكسيموس ومحاكمة أبوليوس أمام محكمة رومانية، بكل تأكيد، في المظاهر الرومانية المتزايدة بالمدينة. إلا أن صبراتة لم تكن روما. علينا تذكر أنه مهما بلغت درجة رومنة إقليم طرابلس فإنه حدث بعد البونقةPunicization الشاملة للمنطقة. فالمباني والمعابد والألقاب الرسمية، أي الممارسات الجلية للثقافة الرومانية (العناصر التي شكلت المحاكاة الظاهرية للمركز) ربما لا تمثل شيئا أكثر من كونها قشرة طرحت بشكل ممنهج فوق القواعد البونيقية السابقة. حقا كان ثمة تعدد ثقافي في إقليم طرابلس الروماني، ومن الواضح أن خطبة أبوليوس خاطبت مباشرة مستمعين متنوعين. وغالبا ما يمكن استشفاف المستمع المستهدف بفقرة ما، أو جملة ما، حتى كلمة ما. براعة أبوليوس البلاغية تتمثل إلى حد كبير في قدرته على مخاطبة حس العدالة الروماني الماثل في الحضور الروماني المميز بينما يتولى، في نفس الوقت، توجيه قدح لاسع إلى خصومه المحليين في عبارات من شأنها إحداث صدى خاص في مدينة مثل صبراتة. عبر هذا السياق، إذن، يمكننا أن نبدأ في فهم طبيعة مرافعة أبوليوس.
*basilica: مبنى روماني مستطيل، في أحد طرفيه محراب أو جزء ناتئ نصف دائري. (المورد).