السودان… مطبات في بداية الفترة الانتقالية
عثمان ميرغني
مع كل احتفال بتحقيق خطوة مهمة في مسيرة المفاوضات والاتفاقات لبدء عملية نقل السلطة إلى مؤسسات الفترة الانتقالية التي توافق عليها المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» في السودان، كانت تحدث منغصات تفسد على الناس أجواء فرحتهم، وتثير قلقهم.
فمع الاحتفال بالتوقيع على الاتفاق النهائي الذي حضره حشد من الضيوف يوم الأحد الماضي، برزت خلافات بين «قوى الحرية والتغيير» بشأن بعض مرشحيهم لعضوية مجلس السيادة، وعادت الاتهامات بالمحاصصات ومحاولة القفز على الاتفاق بعدم ترشيح شخصيات حزبية وتقديم الأسماء على أساس الكفاءات، لا الانتماءات أو الولاءات.
كما تعرض «تجمع المهنيين»، الذي يعد رافعة أساسية في قوى الثورة، إلى انتقادات عنيفة حتى من بعض مكوناته الرئيسية اضطرته للتراجع عن مرشح لمجلس السيادة من ناشطيه، علماً بأنه كان قد التزم وأعلن أنه لن يشارك في مؤسسات السلطة الانتقالية في المستويين السيادي والتنفيذي، وسيكتفي بالمشاركة في المجلس التشريعي لممارسة دور رقابة يحمي الثورة.
قضية المحاصصات ليست موضوعاً هامشياً، بل أخذت حيزاً كبيراً من النقاش والجدل، لأنها لو طغت على التعيينات فلسوف تنسف مبدأ اعتماد الكفاءات المستقلة لضمان بقاء الفترة الانتقالية بعيدة عن التجاذبات الحزبية والمماحكات السياسية، لا سيما أن سلطات هذه الفترة يفترض أن تعد البلاد للانتخابات التي ستعيد البلاد إلى الحكم الديمقراطي بعد غياب طويل.
وفي تقديري أن «قوى الحرية والتغيير» التي عدلت عن بعض التعيينات بعد الضغوط والانتقادات، ما كان يجب أن تعتمد بعد ذلك محاصصات على أساس جهوي، كما رأينا في تعيين المدنيين بمجلس السيادة، ونأمل بألا نراه يتكرر في تعيينات مجلس الوزراء.
صحيح أن تمثيل الأقاليم المختلفة أمر مهم، لكن معيار الكفاءة أهم، ومن المهم ترسيخه مقدماً على أي معيار آخر، بدلاً من اعتماد محاصصات ترسخ فكرة الجهويات وتضعف فكرة المواطنة المتساوية.
مشكلة الأقاليم والهامش، حسب ما أرى، لم تكن نابعة فقط من عدم التمثيل في السلطة المركزية ولن تحل بواسطة مشاركة محدودة فيها. كل الحكومات المتعاقبة كان فيها تمثيل للأقاليم، إضافة إلى أن أغلبية سكان السودان الذين يتركزون في العاصمة ومناطق الوسط نزحوا أصلاً من الأقاليم لأسباب اقتصادية ومعيشية أو نتيجة الحروب والأزمات.
مشاكل الهامش نابعة في الأساس من التنمية غير المتكافئة، والتوزيع غير العادل للثروات والخدمات، وعلاج هذه المشاكل يحتاج لنظرة متعمقة، وسياسات واضحة، وعمل دؤوب، لكيلا يركن الناس إلى مفاهيم معطوبة تعتمد على توزيع المناصب للترضيات، بدلاً من حل المشاكل الحقيقية المزمنة.
هذه الخلافات وغيرها مما برز خلال مفاوضات وترتيبات نقل السلطة، إضافة إلى تعكيرها الأجواء الاحتفالية بين الناس، فإنها تسببت في تأخير إعلان مجلس السيادة ليومين، وفي إرباك جدول إنفاذ الاتفاقات الموقع عليه في الوثيقة الدستورية. فبدلاً من أن يتم تعيين مجلس السيادة وحل المجلس العسكري يوم الاثنين الماضي، فإنه تأجل حتى مساء الثلاثاء وسط أجواء من الارتباك والجدل بين الناس، كما تأجل أداء القسم لأعضاء المجلس السيادي حتى أمس.لم يكن هذا كل شيء، إذ تأخر أيضاً
تعيين رئيس الوزراء ومباشرته مهامه عن موعده المقرر أول من أمس، ويأمل الناس في ألا يؤدي ذلك إلى تأخير تعيين أعضاء مجلس الوزراء في الثامن والعشرين من الشهر الحالي، لكي يباشروا مهامهم بنهاية الشهر، لأن الأمور تقتضي التعجيل لا التأجيل للناس الذين ينتظرون حلولاً سريعة للأزمات المعيشية مع عودة طوابير الخبز والوقود، واستمرار أزمة الكهرباء، إضافة إلى كارثة السيول التي أحدثت أضراراً هائلة وضاعت فيها أرواح وممتلكات وجُرفت أراض زراعية.
من المسائل التي أثارت أيضاً جدلاً كبيراً خلال الأيام القليلة الماضية، وبرزت كمطب قانوني يتطلب معالجة سريعة، مسألة تعيين رئيس القضاء والنائب العام. فبعد رفض المجلس العسكري لمرشح «قوى الحرية والتغيير» الأول، القاضي عبد القادر محمد أحمد، انتبه الناس مجدداً إلى حجم مشكلة حذر منها كثير من أهل الاختصاص عندما نشرت مسودة الوثيقة الدستورية، تتعلق بآلية تعيين رئيس القضاء والنائب العام.
فقد ترك الأمر لمجلس وهيئات لم تنشأ بعد، بالطريقة التي حددتها الوثيقة، مما يعني أنه حتى ذلك الحين تبقى الصلاحيات في أيدي الأجهزة التي شكلت في عهد البشير ويطالب الناس بإصلاحها، باعتبار أن إصلاح القضاء واستقلاليته ونزاهته، من الأركان الأساسية لأي حكم راشد، ومن أساسيات الديمقراطيات.
فبعد توقيع الوثيقة الدستورية ودخولها حيز التنفيذ، لم تعد للمجلس العسكري ولا لمجلس السيادة سلطة في تعيين رئيس القضاء، بل انتقلت هذه السلطة إلى مجلس القضاء الأعلى عندما ينشأ. والأمر مشابه بالنسبة للنائب العام الذي تنتقل سلطة ترشيحه إلى المجلس الأعلى للنيابة العامة ويعينه مجلس السيادة. النتيجة أن الترشيحات المقترحة لهذه المناصب الحيوية التي قدمتها «قوى الحرية والتغيير» تعطلت إلى حين حسم الجدل وحل هذه الورطة القانونية.
القانونيون يقولون إنه إذا قام مجلس السيادة بتعيين رئيس القضاء أو النائب العام خارج الطريقة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، فإن تداعيات الخطوة ستكون خطيرة للغاية، لأن التعيينات تصبح قابلة للطعن أمام المحكمة الدستورية، مما يجعل أي قرارات تصدر عن هاتين الشخصيتين أو الجهتين المحوريتين في مهب الريح، بما فيها كل القرارات المتعلقة بالمحاكمات المزمعة لرموز النظام الساقط، وللمتهمين في قضايا الفساد والنهب، أو جرائم التعذيب والقتل.
الموضوع الآن بانتظار الحسم واتخاذ قرار حول ما إذا كان يحق لمجلس السيادة شغل المنصبين بتعيينات مؤقتة، أو اللجوء إلى إدخال تعديل على الوثيقة الدستورية باجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء اللذين يتوليان مجتمعين وبشكل مؤقت سلطات المجلس التشريعي إلى حين تشكيله.
بعيداً عن هذه المنغصات فإن الناس ينتظرون رؤية التزام أعضاء مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي عندما يشكل بعد ثلاثة أشهر، بتقديم إقرار الذمة المالية الذي يتضمن ممتلكاتهم والتزاماتهم، وكذلك ما يتعلق بزوجاتهم وأبنائهم. فبعد الفساد الطاغي الذي دمر مقدرات البلد في عهد نظام البشير الساقط، يصبح هذا الأمر ضرورياً لضمان الشفافية ومعالجة وتصحيح الأوضاع السابقة، وتقديم نموذج لعملية الإصلاح المطلوبة على مستوى الدولة والمجتمع. المرحلة المقبلة هي مرحلة العمل الدؤوب والشاق لا الخطب.
تشكيل مجلس السيادة وتعيين رئيس الوزراء يمثلان خطوتين مهمتين في عملية انتقال السلطة وملء الفراغ الحاصل منذ 11 أبريل (نيسان) الماضي، والناس يتطلعون الآن لتجاوز أي منغصات طارئة، وبدء العمل الحقيقي والجاد لإخراج البلاد من الوضع المتردي الذي آلت إليه في كل المناحي.
فالثورة لم تنتصر لمجرد تشكيل هياكل السلطة الانتقالية، أو قسم منها، ونجاحها سيكون بالنتائج على الأرض، والمشوار يبقى طويلاً ويحتاج إلى اليقظة من قوى الثورة وشبابها وكنداكاتها في ظل التحديات الكثيرة ووجود متربصين من بقايا النظام الساقط ودولة الإسلامويين العميقة، وبعض الانتهازيين من متحيني الفرص اللاهثين وراء المناصب والمنافع.