السودان… ماذا بعد مرحلة «صابنها»؟
عثمان ميرغني
الثورة السودانية التي نجحت في تخطي كل تحديات القمع والبطش والقبضة الأمنية لنظام البشير، تقع الآن في مطب المفاوضات المرهقة والمماحكات التي تعوق مسيرتها وتمنع تقدمها لتحقيق مطالبها التي قامت من أجلها.
أكثر ما يثير الإحباط والقلق اليوم هو الفراغ الحاصل وعدم التوصل إلى اتفاق في المفاوضات بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، مما عطل إعلان تشكيل الحكومة وبقية هياكل الحكم للفترة الانتقالية. فعلى الرغم من مرور قرابة شهر على إطاحة الرئيس البشير، لا يستطيع أحد أن يقول إن الثورة انتصرت وحققت أهدافها، بل الشعارات المرفوعة في هذه اللحظة هي «لم تسقط بعد»، و«تسقط ثالث»، و«صابنها»، وهذا التعبير الأخير من التعبيرات العفوية ذات الدلالات العميقة وطغى في الفترة الأخيرة على شعار «تسقط بس»، وهو مشتق من «صبة» الإسمنت، أي الخلطة الصلبة في أي بناء يحتاج إلى دعامات قوية تمنع التحرك أو الاهتزاز أو الانهيار. الشباب يستخدمون التعبير في المرحلة الراهنة للقول إنهم باقون في مكان اعتصامهم ولن يتزحزحوا عنه إلى أن تتحقق مطالب الثورة، في ضوء ما يلمسونه من مماطلات وتأخير في إجراءات نقل الحكم إلى سلطة مدنية.
المؤتمرات الصحافية والتنويرية التي عقدها ممثلو المجلس العسكري من جهة وممثلو قوى الحرية والتغيير من جهة أخرى تكشف حجم الهوة التي تفصل بين الجانبين، لا في الشكليات كما يحسب البعض، بل في أمور ستحدد طبيعة المرحلة الانتقالية وما يمكن أن تنتهي إليه، سواء بالانتصار للثورة أو نجاح المتربصين بها الذين يريدون وأدها بقفازات من حرير في غرف التفاوض إن تمكنوا، أو بأساليب خشنة إن اضطروا. وواهم من يعتقد أن نظام الإسلامويين الذي تسلط على البلاد والعباد ثلاثين عاماً وفرض دولة التمكين، سيتخلى عن السلطة ويسلم الحكم بهذه السهولة، ولن يحاول إحباط الثورة وإعادة إنتاج نفسه. كان واضحاً خلال الأيام القليلة الماضية أن هناك مناورات وتحركات تقوم بها القوى التي لا تريد لهذه الثورة النجاح. الاشتباكات المحدودة بين أفراد من ميليشيا قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وبين المعتصمين، وظهور العصي والسياط مرة أخرى في مواجهة المحتجين، كانت رسالة تحذير من مغبة استمرار الفراغ السياسي، مثلما كانت رسالة تنبيه وتذكير للناس بالملثمين الذين كانوا يستقلون عربات من دون لوحات ومارسوا أبشع أنواع القمع ضد المتظاهرين في هذه الثورة، والذين سيتكشف كثير عنهم في مقبل الأيام.
كذلك كان لافتا الخبر الذي أعلنته قوات الدعم السريع يوم الاثنين الماضي عن ضبطها خلية تخريبية ومصادرة كمية من الأسلحة والذخائر والعبوات الناسفة، بعد مداهمة منزل في أحد أحياء الخرطوم. فقد شكك كثيرون في الخبر والطريقة التي أعلن بها في مقطع فيديو واعتبروه عملا دعائيا لتلميع قوات الدعم السريع، ويأتي في سياق تحذيرات من المجلس العسكري من الانزلاق للفوضى لترهيب الناس وللضغط من أجل إزالة متاريس الاعتصام. فالخطر الأكبر من العنف يأتي من الدولة العميقة وكتائب ظلها والتي لم يقم المجلس العسكري بجهد حقيقي لتفكيكها، بل لم يعتقل بعض القيادات البارزة المعروفة لهذه الكتائب. كل هذه الأمور يمكن قراءتها على أنها في إطار تشديد الضغوط الظاهرة والمستترة على قوى الحرية والتغيير لكي تقدم على خطوات وتنازلات تتوصل من خلالها إلى حلول مع المجلس العسكري تزيل العقبات التي تعرقل تشكيل هياكل المرحلة الانتقالية. وفي هذا الصدد يبدو واضحا أن المجلس العسكري يمارس أيضا لعبة الوقت فيطيل في المفاوضات، ويماطل في بعض الطلبات، ويوسع في دائرة اللقاءات مع مختلف القوى السياسية والمجتمعية، مراهنا على أن الوقت لصالحه سواء لتعزيز سلطاته، أو لتشديد الضغط على قوى الحرية والتغيير من الناس الذين يريدون عودة الحياة الطبيعية، أو على أمل أن يضعف الاعتصام مع مرور الوقت، أو أن تكبر الخلافات التي بدأت تظهر بين قوى الثورة.
استراتيجية المجلس العسكري، شئنا أم أبينا، تحقق بعض النجاح في ظل استمرار الفراغ. فقد بدأت بعض الأصوات ترتفع مطالبة قوى الحرية والتغيير بتجاوز الخلافات الراهنة، والإسراع بتشكيل حكومة انتقالية وإعلانها أولا، مع استمرار التفاوض حول القضية الخلافية الأساسية وهي تشكيل مجلس السيادة. هذا الأمر ظاهره رحمة وباطنه نقمة. فتشكيل الحكومة من دون حسم موضوع مجلس السيادة سيفتح أبوابا للخلافات حول الصلاحيات، وسيجعل الحكومة تحت سلطة المجلس العسكري الذي يمارس السلطات السيادية حاليا، خصوصا إذا لم يكن هناك توافق على إعلان دستوري ينظم الفترة الانتقالية، ويحدد الصلاحيات بين هياكل الحكم.
الترتيب المنطقي أن يكون هناك توافق على الإعلان الدستوري، أولا لأنه الوثيقة الموجهة للفترة الانتقالية والمفصلة لهياكل الحكم وصلاحيات المجلس السيادي، والحكومة، والمجلس التشريعي. الخلافات التي برزت مع إعلان المجلس ملاحظاته على الوثيقة الدستورية التي سلمتها قوى الحرية والتغيير تكشف أهمية صدور هذه الوثيقة قبل الإعلان عن أي تشكيلات. فالمجلس العسكري كما بدا واضحا يريد تكريس كثير من الصلاحيات في مجلس السيادة الذي يتمسك بأن تكون له الغلبة العددية فيه، إضافة إلى رئاسته، بينما تصر قوى الحرية والتغيير على أن يكون المجلس مدنيا بتمثيل عسكري على أساس أن الثورة لم تقم لتسليم الحكم إلى نظام عسكري بل للانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي.
حسم موضوع الوثيقة الدستورية، وتحديد هياكل الحكم وصلاحيات الأجهزة الأساسية سيمهدان الطريق للانتقال للعقدة الأخرى الصعبة وهي تفاصيل تشكيل مجلس السيادة. فحتى الآن لم يبرز أي اقتراح مقبول للأطراف لتجاوز هذه العقبة، لا سيما بعد رفض اقتراح لجنة الوسطاء الداعي لتشكيل مجلسين، واحد للسيادة بأغلبية مدنية، والثاني للدفاع والأمن بأغلبية عسكرية، على الرغم من أنه بدا اقتراحا معقولا للخروج من عنق الزجاجة.
في كل الأحوال فإن أي غلبة عسكرية في تشكيل مجلس السيادة لن تكون مقبولة لقوى الثورة، ولا للمجتمع الدولي ممثلا في الدول الأوروبية والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي، كما أنها ليست في صالح السودان لأنها ستحرمه من الاستفادة من فرص الحصول على دعم إسعافي لاقتصاده المتهالك، والاستفادة من إعفاءات الديون القديمة والحصول على أي قروض جديدة.
المجلس العسكري الذي ظل يكرر أنه ليس متشبثا بالحكم ولا يريد البقاء فيه أو الالتفاف على مطالب الثورة، بات عليه الآن أن يثبت الأقوال بالأفعال، أو يكشف عن نياته الحقيقية. أما قوى الحرية والتغيير التي ظلت بكثير من الانضباط تحاول تجنب الدخول في مواجهة مع المجلس العسكري، فإنها بدأت ترى أنه لا مناص من اللجوء إلى التصعيد عبر الشارع وقوى الاعتصام. كل الشواهد تدل على أننا نقترب من لحظة هذه المواجهة التي قد تعقب سقفا زمنيا تحدده قوى الحرية والتغيير، التي تعرف أن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه بينما يزداد التململ في الشارع الذي يريد معالجة همومه، وفي ميدان الاعتصام المتأهب لما بعد «صابنها».
الثورات قد تنطلق بالنيات الطيبة والآمال العريضة، وتتسلح بمشاعر الغضب الناجمة عن تراكم الإحباطات، لكنها تحتاج إلى أكثر من ذلك لكي تكمل المشوار وتحقق غاياتها، مروراً بفترات الانتقال وهي الأصعب والأخطر.