السندباد وأوديسيوس
عمر أبو القاسم الككلي
تضرب “ألف ليلة وليلة” جذورها عميقا في ثقافة شعوب رقعة كبيرة من العالم القديم المعروف. وسنأتي هنا بمثال واحد نقابل فيه بين حادثة يرويها السندباد وأخرى واردة في “الأوديسة”.
وبما أن “الأوديسة” أسبق من عمل “ألف ليلة وليلة” بزمن مديد، فسنورد ملخصا لها هي أولا.
يذهب أوديسيوس* مع ثلة من رفاقه لاستكشاف الجزيرة التي وصلو إليها، فيجدون أنفسهم أمام كهف صخري، ويجدون بداخل الكهف حظيرة عظيمة تعج بقطعان من الأغنام والماعز، ويكتشفون بعد ذلك أن هذا الكهف مأوى مارد جبار من السيكلوبس، وهم كائنات جبارة على هيئة إنسان ولكن لها عين واحدة في جبينها.
يعود السيكلوبس إلى كهفه و “على كاهله الرحب أثقال وأحمال من الحطب وفروع الشجر اليابس، حتى إذا كان لدى الباب ألقاها في بطش فاهتزت الأرض ودوي المكان، وانحبس وصيد الكهف، فانقذف الرعب في أفئدتنا، فهرولنا مذعورين صعقين، واختبأنا كالخفافيش في زوايا المغارة وشقوقها”.
ينصرف السيكلوبس إلى إيواء قطعانه وحلبها، وبعد فراغه من ذلك يوقد نارا عظيمة ليكتشف على ضوئها وجود أديسوس وأصحابه. فيصيح فيهم سائلا عن هويتهم ليزلزلهم صياحه “زلزالا عظيما، وكان صوته الأجش الخشن يلقي الرعب في قلوبنا فتعتلج اعتلاجا”.
وبعد حوار بينه وبين أديسوس ينقض “كالصاعقة” على رجلين من المجموعة وضرب بهما أرضية الكهف الصخرية “فتهشم رأساهما، “وانتثر المخ فوق الحجارة هنا… وهنا.. وألقاهما بعد ذلك في الجمر المتأجج حتى نضجا… واستوى كالسبع الرئبال، وطفق ينهشهما… ولم يمض وقت طويل حتى أتى عليهما. غير مبق على عظمة واحدة”.
بعد ذلك “انطرح [الجبار] بين قطعانه وجعل يرسل في الكهف شخيرا مزعجا”. بعد تكرر حالات التغذي باثنين ثلاث مرات، تخطر لأوديسيوس سقي المارد نبيذا. فشرب حتى ثمل ونام. عندها يعمدون إلى عمود من شجر الزيتون كانوا قد أعدوه لهذا الغرض ويضعون طرفه المدبب في الجمر حتى تأجج ويقومون بغرزه في عينه. وبعد مفارقات وحيل معينة يتمكنون من الهرب.
في “ألف ليلة وليلة” و** في الليلة 533 في حكاية السندباد الثالثة، تؤدي حوادث معينة معاكسة بالسندباد وعدد من رفاقه إلى البقاء معزولين في إحدى الجزر. وأثناء تجوالهم فيها يشاهدون مبنى في تلك الجزيرة فيمشون إليه “فإذا هو قصر مشيد الأركان عالي الأسوار” بابه مفتوح “فدخلنا باب ذلك القصر فوجدنا له حضيرا واسعا مثل الحوش الواسع الكبير وفي دائرة أبواب كثيرة عالية وفي صدره مصطبة عالية كبيرة وفيها أواني طبيخ معلقة على الكوانين وحواليها عظام كثيرة ولم نر فيها أحدا”. فيمكثون في ذلك القصر ويأخذهم النوم “من ضحوة النهار إلى غروب الشمس وإذا بالأرض قد ارتجت من تحتنا وسمعنا دويا من الجو شخص عظيم الخلقة في صفة إنسان وهو أسود اللون طويل القامة كأنه نخلة عظيمة وله عينان كأنهما شعلتان من نار وله أنياب مثل أنياب الخنازير وله فم عظيم الخلقة مثل البئر وله مشافر مثل مشافر الجمل مرخية على صدره وله أذنان مثل الحرامين [؟] مرخيتان على أكتافه وأظافر يديه مثل مخاليب السبع فلما نظرناه على هذه الحالة غبنا عن وجودنا وقوي وقوي خوفنا واشتد فزعنا وصرنا مثل الموتى”.
ولما ينزل هذا الكائن على الأرض يجلس قليلا فوق المصطبة، ثم يقوم ويشرع في أخذهم في يده واحدا واحدا بادئا بالسندباد نفسه ويجسهم ثم يطلقهم لضعفهم “إلى أن وصل إلى ريس المركب التي كنا فيها وكان رجلا سمينا غليظا عريض الأكتاف صاحب قوة وشدة فأعجبه وقبض عليه مثلما يقبض الجزار على ذبيحته ورماه على الأرض ووضع رجله على رقبته وجاء بسيخ طويل فأدخله في حلقه حتى أخرجه من دبره” وبعد ذلك قام بشيه على النار “حتى استوى لحمه وأطلعه من النار وحطه قدامه وفسخه كما يفسخ الرجل الفرخة” وأخذ يأكله حتى لم يُبق منه سوى القليل من العظام. ثم “انطرح ونام على تلك المصطبة وصار يشخر مثل شخير الخروف أو البهيمة المذبوحة” وفي الصباح قام وخرج. بعد تكرر الحالة مرتين يتفق السندباد ورفاقه على استخدام بعض الأخشاب الموجودة في القصر في صنع فلك صغير توضع فيه كمية من الزاد والماء ويخفى عن المارد ثم يقتلونه ويفرون.
وتنجح الخطة. إذ بعد المرة الثالثة يدُخلون سيخين من الحديد محميين في عيني هذا الكائن الهائل الذي يستيقظ في حالة من الرعب والهول، ويفلح السندباد ورفاقه في الهروب منه والخروج من القصر. ويغادر الكائن القصر ليعود “ومعه أنثى أكبر منه وأوحش منه خلقة […] ومع كل واحد منهما صخرة عظيمة وصاروا يهاجموننا بها إلى أن ممات أكثرنا من الرجم وبقي منا ثلاثة أشخاص”.
من الناحية العامة تشترك رحلة أوديسيوس مع رحلات السندباد في كونها رحلات بحرية. رحلة أوديسيوس تمت بعد انتهاء حرب طروادة بعودته بحرا من طروادة إلى مملكته إيثاكا. أما السندباد فتاجر يذهب ويعود في رحلات بحرية تجارية. كلاهما، أوديسيوس والسندباد يكابدان أهوالا في هذه الرحلة أو الرحلات. الجزر هي مسرح الأحداث الأساسي في العملين. مغامرات أوديسيوس والسندباد مروية بضمير المتكلم.
أما من الناحية الخاصة فالتشابه الشديد واضح في الحكايتين، ولا يحتاج إلى شرح. وقد تكون حكاية أديسيوس هنا ذات مصدر أقدم من “الأوديسة” وأنها كانت شائعة زمن جمع حكايات “ألف ليلة وليلة”.
* هوميروس، الأوديسة، ترجمة دريني خشبة، التنوير، بيروت- القاهرة-تونس، 213، الصفحات من 95 إلى 107.
** “ألف ليلة وليلة” م 3. مكتبة الجمهورية العربية، القاهرة- مصر (د. ت). تبدأ حكايات السندباد البحري من الليلة 425 (ص 82) وتنتهي عند ليلة 555 (ص 122). والحكاية محل التناول هنا تبدأ ليلة من ليلة 533وتنتهي ليلة 535 . الصفحات من 94 حتى 97.