السفر مع كورونا إلى أين؟
سالم العوكلي
رغم عدم ظهور حالات واضحة للإصابة بفيروس كوفيد 19 في ليبيا بداية الإعلان عن الجائحة، إلا أنه اتّخذت بعض الإجراءات استجابة لتعليمات منظمة الصحة العالمية، أو لكي نشعر أننا جزء من هذا العالم نشاركه خوفه وعزلته، ومن ضمن هذه الإجراءات إيقاف الدراسة في جميع المراحل الدراسية، وإلغاء صلوات الجمعة والجماعة، ولفترة منع التجول ابتداء من الساعة السابعة مساء حتى الساعة السادسة صباحا، وكتبت فترتها منشورا متفكها يقول “قد يرجع منع التجول ليلا إلى أن فيروس كورونا جاء من الخفافيش، وهو لا يظهر إلا في الليل مثل الخفاش. وإلا ما السبب؟”. والسبب دائما كان تقليد ما تفعله المجتمعات الأخرى دون الانتباه لخصائص هذا المجتمع الذي يحوش أفراده طبيعيا إلى بيوتهم نهاية النهار حيث لا توجد حياة ليلية من الأساس، ورغم هذه الإجراءات التي أوقفت التجمع في المؤسسات التعليمية بكل مراحلها، وأماكن العمل، والمساجد، إلا أن الزحام في الأسواق والعناق في المآتم والأعراس وكل المناسبات ظل كما هو في مجتمع تشكل فيه الدعوة إلى التباعد الاجتماعي أزمة أكثر خطرا من جائحة كورونا، كما أن مسألة الحذر والخوف من هذا الفيروس هي مسألة وجودية تتعلق بفكرة الموت ، ولكثير من الليبيين علاقة خاصة مع هذه الفكرة، بعضها متعلق بالعقيدة والقدر والأجل، وبعضها متعلق بحالة من العبث تجاه الحياة والموت، وبعضها مجهول السبب حتى الآن على الأقل، فرغم خوف الجميع الكامن من الموت وبكل أسبابه، إلا أن ثقافة تقديس الحياة الإنسانية واحترامها في مجتمعنا غير راسخة إجرائيا، من قِبل أفراد المجتمع، أو من قِبل سياسات حكومية مستمرة منذ عقود. ولضرب أمثلة على ذلك، فإن الحوادث المرورية تقتل سنويا الآلاف من الليبيين دون أن تتخذ حتى الآن إجراءات حقيقية لتخفيف حدة هذه (الجائحة) ، فمنذ عقود لم تهتم الدولة بإجراءات السلامة في الطرق، أما من ناحية أهمية الحياة من جانب الأفراد فسأضرب مثالا واحدا، وهو حزام الأمان في السيارات، والذي تقريبا يتجاهله كل الليبيين رغم أنه يتعلق بمسألة الحياة أو الموت، بينما خدمات كل الأجهزة والهيئات والمرافق المتعلقة باحترام الحياة الإنسانية تدهورت إلى مستويات مخيفة، مثل الخدمات الصحية، أو مؤسسات الرقابة الصحية على الأدوية والأغذية، أو التخلص من القمامة ومياه الصرف الصحي، وفي المجمل يعكس هذا التدهور مدى تدني قيمة أهمية الحياة الإنسانية في ثقافة الطبقات السياسية التي حكمت منذ عقود وفي الثقافة الاجتماعية، ولا عجب أن تحتشد أغانينا وهتافاتنا بالموت كنهاية رومانسية لطريقة عيش شاقة.
في تفسير هذا العبث بالحياة مقارنة بمجتمعات مرفهة، البعض يقفز قفزة بعيدة في رحاب الغيب مفسرا أن الحرص على الحياة الدنيا عند أولئك لأنهم لا يؤمنون بالحياة الأخرى.البعض المنفعل أو المتشائم أو الغاضب من أحوال البلاد يبرر هذا التسيب، أو هذه الرغبة الانتحارية الكامنة في اللاوعي، بكون أن الحياة ليست مثيرة لهذه الدرجة كي نتشبث بها، وإن من الطبيعي أن يحرص السويدي أو النرويجي، على سبيل المثال، على حياته لأنها تستحق. إنها دول تحتكر المراتب العالمية الأولى في معدل السعادة.
وفق مؤشرات السعادة التي صدرت بداية العام 2020 مع قرع درس الإنذار، جاءت فنلندا، والدنمارك، وسويسرا، وآيسلندا، والنروج، وهولندا، والسويد، ونيوزلندا، والنمسا، ولوكسمبرغ، في المراتب العشر الأولى، على التوالي. أما دول الجنوب فهي في آخر القائمة كالعادة. لكن ما لبث أن ظهر هذا الفيروس الثوري ليقلب هذه المؤشرات رأسا على عقب، فأصبحت المراكز العشرة الأولى حسب الترتيب بعد فترة من صدور هذه القائمة: الصومال، جيبوتي، اليمن، ليبيا، ميانمار، كينيا، رواندا، ليسوتوا، بوتسوانا، زيمبابوي. حيث كانت تشير الخارطة الإلكترونية السياحية لهذه المناطق ـ قبل أن تظهر فيها الجائحة ــ باعتبارها المناسبة لقضاء الإجازة. والتراجيديا التي لا تنضح من حوافها الكوميديا غير إنسانية. لكن أهم ما في هذه الجائحة أنها تذكرنا بوجودنا الإنساني بعد أن تحولنا إلى كائنات مستهلكة تتردد أرقامها في دراسات الاقتصاد والسوق. يقول الفيلسوف الإيطالي، روكو رونشي في مقاله (فضائل الفيروس): “يشير الفيروس إلى حالتنا البشرية الأبدية. في حالة ما إذا نسينا أننا بشر، محدودون، محتملون، ناقصون، متطلعون إلى أن نكون أنطولوجيين، إلخ، فإن الفيروس موجود هنا ليذكرنا، مجبرا إيانا على التأمل وتصحيح لهونا، كمستهلكين قهريين.”.
فترة ساعات منع التجول التي فرضت في منطقتي كنت أشاهد الكثير من الأفلام، وأرى فيها الزحام والحفلات الموسيقية، والأصدقاءَ وهم يأخذون بعضهم بعضا بالأحضان، فأحس كأنها مشاهد غابرة، مشاهد من زمن ما قبل تفشي كورونا، مثلما أرى في مباريات كرة القدم القديمة المدافعَ يعيد الكرة لحارس المرمى فيلتقطها بيده، أو مثلما أرى برجي التجارة في نيويورك في أحد الأفلام فأعرف أنه أنتج قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. فهذا الفيروس يرسم شكلا مختلفا للعالم، ويشكل علامات سيميائية ستظل على مدى الزمن تذكرنا بالرعب الذي وحد العالم، رغم أن منظمة الصحة العالمية تقر بأن هذا الفيروس أبدي ولن ينتهي ولا نملك إلا أن نتعايش معه كما تعايشنا مع كل عائلة كورونا أو الفيروسات التاجية التي اكتشفت في ستينيات القرن الماضي واشتهرت بكون منطقة استيطانها هي الجهاز التنفسي الناعم.
كوفيد 19 لا يقصد قتلنا، وتكمن رغبته في أن يعيش عبرنا ويتعايش معنا، لكنه يفتك بنا في خضم هذه الرغبة الوجودية، والأمر شبيه بتلك الجماعات المتطرفة التي ترغب في أن نتعايش معها كما تريد لكنها في ظل هذه الرغبة تفتك وتقتل وتذبح كأي فيروس أعمى، أو كأي نظام قمعي يفتك بالناس كي يتعايش معهم ويتعايشوا معه إلى أن يتحول البشر من حياة الخوف إلى طمأنينة التكيف. في الدول التي تعتقد أنها بلغت الذروة وبدأ الوباء ينحسر فيها، أو أن الجسم البشري بدأ يتأقلم معه يبدأ السماح بالسفر من جديد لإنقاذ قطاعات اقتصادية ذاهبة للإفلاس التام، لكن لهذا السفر في قلب الجائحة مظهر مختلف سيظل أحد الصور القابعة في أرشيف البشرية يعكس لحظة الخوف القصوى ولحظة المقاومة الغريزية عند الإنسان لفكرة الفناء.
التباعد الاجتماعي هو الوصفة الشاملة لكل العالم، رغم أن هذا الفيروس حقق أفضل تقارب اجتماعي على مستوى الأُسَر، غير أنه في السفر بالطائرات ستضاف أقواس المسح الحراري مع أقواس التفتيش عن المعادن، وستصوِّب الموظفة الجميلة مسدسا إلى كل رأس من رؤوس المسافرين لقياس حرارته، وستقام بوابات ذكية لختم الجوازات، وتلغى مقاعد في الطائرات وصالات الانتظار للمحافظة على المسافة الآمنة، ويمنع الحديث بين الركاب الذي كانوا يستعينون به على ملل ساعات السفر. الوجبات ممنوعة، والأنكى من كل ذلك ستختفي ابتسامات المضيفات خلف الكمامات وأصابعهن الرقيقة في قفازات بلاستيكية، ولا يبقى سوى ظل ذعر يلمع في عيونهن الخائفة من كل زبون، فماذا تبقى من متعة السفر؟ وماذا تبقى من هذا العالم الذي كان يغرق في زحام حميم حين يصبح التباعد الاجتماعي طريقة للنجاة؟.
العالم 2007 كتبت في روايتي (اللحية) التي تبحث في ثيمة التوجس الذي بدأ يتفشى بين البشر، ما يلي: “يبرهن الحنين دائماً عن غموض المصير وعن تلك الأشباح التي تتراءى في طريق يبتلعه أفق مجهول … يحدث هذا في خضم اللهاث وسط أصوات جديدة تدخل حيز الأذن كل يوم. دقات الساعات على الجدران، صفارات الإنذار، أجهزة رصد نبضات القلب، نغمات الموبيل، طنين أجهزة التفتيش الإلكترونية، ثغاء القطارات الواصلة. يتضافر الإيقاع اللاهث مع مخالب الريبة في الكائن البشري، تختلط الأصوات حول جسد تنتهك عتمته الأشعة والمناظير فيعلن عن خطابه بمفرداته الخرساء…. كنت مراراً أحاول أن أروض الفزع الذي تلقيه في نفسي تلك الأصوات المربكة والعيون التي تقارن الكائن بصورته في أوراقه الثبوتية، تغدو الصورة هي الأصل الموثوق به وعلى الإنسان أن يشبهها كي يعبر نفق الشكوك، تحل الهالة محل الكينونة، فأخاف من الخطى خلفي ومن كل طرقة على الباب، من سائق التاكسي ومن المقاعد المجاورة في المقهى. تتلاشى المسافة بيننا باطراد.. نلتصق في المصاعد والحافلات وطوابير الخبز، لكن الحواجز محكمة، والهواجس تبنِي على كل جسد خيمة ، كل واحد معزول في مونولوجه السادر، وسابح في مداره ككوكب مجهول.”
لم يخطر ببالي حين كتبت ذلك، قبل 13 عاما، مثل هذه الجائحة، لكني كنت مرعوبا من حالة التوجس الشاملة التي تكتسح حياة البشر حين اختفت الثقة في الكائن الإنساني، لنجد أنفسنا مرصودين من أجهزة خرساء هي من تثبت براءتنا، لأن كل إنسان من الأساس مشبوه ومتهم.