الرئيس الليبي وظيفة لا وجود لها
كرم نعمة
ليبيا تبحث لها اليوم عن رأس متفق عليه ليُصدر قرارات ملزمة وتحظى بالاحترام. لكن كل القراءات لا توحي بأي شيء قريب من الاتفاق، مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل.
بغض النظر إذا أُقر قانونا الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية، قبل أو بعد ما سيقرره ملتقى الحوار السياسي بشأن القاعدة الدستورية. فإن هذا القرار أيا كان مصدره الدستوري مجرد كلام عاجز عن أن يدخل مدونة التاريخ.
إذا كان لدينا برلمان جماعي ممثل لطبقات سياسية وقبائل ومناطق من مختلف ليبيا مشكوك في تأثيره، فكيف لنا مجرد تخيل أن هناك رئيسا ليبيا يمكن أن يستقر في مبنى ما بطرابلس أو بنغازي أو سبها، يجمع ليبيا مترامية الأطراف تحت سلطته الدستورية؟
“الرئيس الليبي” وظيفة لا وجود لها، أجهز عليها معمر القذافي، وأنهى مفهوما سياسيا في البلاد العاجزة عن تلاحم أوصالها المتباعدة من ساحل المتوسط حتى صحراء شمال أفريقيا.
ليس لأن الليبيين مختلفون بطبعهم وفق مفهوم العمل الجماعي، بل لأن الأحزاب والزعامات التي برزت بعد انهيار نظام القذافي لا تمثل حقيقة الليبيين وليبيا كدولة بقدر تمثيلها لجغرافية مناطقية وقبائلية ضيقة.
في تسعينات القرن الماضي عندما فرض الحصار الأميركي على ليبيا بسبب قضية لوكربي، كان الصحافيون والمراسلون الغربيون يقابلون بابتسامة ساخرة بعد إطلاقهم سؤال عن مقر الرئاسة الليبية. “لا يوجد لدينا رئيس نحن شعب يحكم نفسه بنفسه” كان المسؤولون الليبيون يعيدون الإجابة الجاهزة على سؤال الصحافيين، من دون أن يقتنعوا بها.
كان القذافي يعتقد أنه أكبر من وظيفة الرئيس، لذلك اختار لنفسه لقبا متواضعا “الأخ القائد” هو في حقيقة الأمر نوع من التواضع المزيف حد السخف بمجرد أن نعرف أن ما يصدر من قرارات في ليبيا كان مصدرها الوحيد “مكتب قلم القائد” ولا أحد غيره. في مقابل ذلك هناك مناصب وهمية أغدقها القذافي على نفسه باعتباره أعلى من أي منصب دستوري “أمين القومية العربية” “ملك ملوك أفريقيا” من أجل أن يهين مفهوم الرئيس! كان يفعل ذلك أيضا عندما يرفض استقبال أيّ من رؤساء الدول عند وصولهم إلى المطار تحت نفس الذريعة السخيفة “ما أنا برئيس ليبيا”!
إذا من كان الرئيس آنذاك؟ لا أحد! لكن لا أحد أيضا فوق الأخ القائد. مقابل ذلك هل يوجد قصر رئاسي أو جمهوري؟ ذلك سؤال يكمل المهزلة السياسية الليبية التي بقيت مستمرة منذ عام 1969 حتى مقتل الزعيم. ومن سوء حظ الليبيين أنها مازالت مستمرة عندما لم يجدوا من يعتبرونه زعيما لهم لحد الآن، سواء بالانتخابات أو بالتوافق المقبول نسبيا. ذلك أيضا ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية إن حصلت فعلا.
الليبيون لا ينتظرون، قريبا، أن يجدوا لهم رئيسا لأن مثل هذه الوظيفة قُتلت منذ أنهى القذافي مفهوم الدولة ولا أحد من الذين صعدوا بعده أحزابا وسياسيين قادر على استعادة الدولة الليبية
اكتشف العالم أن لا قصر رئاسيا حقا بعد مقتل القذافي، ما كان يسمى بباب العزيزية مجرد سياج طويل يحيط بفراغ إلا من بعض المباني المتواضعة وأصبحت اليوم مأوى للمهجرين الليبيين. القذافي كان يزدري كل حقبة تؤرخ لوجود زعامة تاريخية قبله، لكنه أيضا لم يترك في ليبيا غير الفراغ الشاسع لمدونة التاريخ السياسي.
اصطحبني صديقي الراحل أبوالقاسم القويري في نهار طرابلسي شتائي مشمس إلى لقاء الراحل كامل المقهور، بوصفه محاميا وقاصا في منتصف تسعينات القرن الماضي، بعد أن تفرغ من مناصب وزير النفط ووزير الخارجية “لاحقا كلف كمحامي الدفاع عن المقرحي وفحيمة في قضية لوكربي”. فرأيناه مهموما وحزينا! كان القذافي قد مر قبل أيام في طرقات طرابلس المشيدة بفلسفة العمارة الإيطالية الباهرة، ومن سوء حظ المعمار الليبي أنه وقف أمام مبنى إيطالي رائع، كان مقرا لأحدى الوزارات إبان حقبة الحكم الملكي، فاستشاط غضبا وهو يقول للمحيطين به، وماذا فعلت ثورة الفاتح غير تهديم أصنام النظام الملكي الفاسد! من سمح لكم بإبقاء هذا المبنى مشيدا إلى اليوم.
كان المشهد أقسى ما يمكن عندما انهالت معاول الضغينة والتخلف في اليوم التالي لتهديم المبنى. حزن المقهور على المبنى المهدم في مدينته كان لا يقدره أحد إلا من قرأ سيرته الذاتية في كتاب “محطات – سيرة شبه ذاتية” وهو يؤرخ لمنطقة الظهرة في العاصمة طرابلس.
ذلك جزء من التاريخ الليبي الذي أجهض عليه القذافي لقتل مفهوم وظيفة الرئيس ومكانته في الدولة.
اليوم ليبيا تبحث لها عن رأس متفق عليه ليُصدر قرارات ملزمة وتحظى بالاحترام. لكن كل القراءات لا توحي بأي شيء قريب من الاتفاق، مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل.
مجلس النواب الذي يتخذ من طبرق مقرا له يدفع باتجاه إصدار قوانين الانتخابات دون التنسيق مع مجلس الدولة، وكأنه في ذلك يعيد سيناريو الاحتراب، كما قائد الجيش الليبي الموازي خليفة حفتر يحظى بدعم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لإصدار قانون الانتخابات الرئاسية، مما يفتح الطريق أمام اللواء حفتر للترشح من دون خلع بزته العسكرية.
على الجانب الآخر هناك ملتقى الحوار السياسي الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، يثير سؤالا خلافيا موازيا عمن ينتخب الرئيس الليبي، إن كان عن طريق صناديق التصويت الشعبية أم من قبل أعضاء البرلمان.
قبل ذلك لا زال الجدل متصاعدا عمن يحق له الترشح لمنصب رئيس الدولة: مزدوجو الجنسية، العسكريون، من عمل مع نظام القذافي. كذلك تحظر أسماء أولية متنافسة لا تحظى بقبول شعبي معقول: خليفة حفتر، عبدالحميد الدبيبة، سيف الإسلام القذافي، فتحي باشاغا.
فضلا عن كون تلك الأسماء عاجزة وفق التقويم المفرط بالتفاؤل، عن فرض هيبتها “الرئاسية الديمقراطية” قبل أو بعد فوزها، فإنه لا شيء يوحي بأن ليبيا مقبلة على انتخابات نزيهة وشفافة ومبنية على قاعدة دستورية وقوانين متوافق عليها. لذلك لا ينتظر الليبيون قريبا أن يجدوا لهم رئيسا، لأن مثل هذه الوظيفة قُتلت منذ أنهى القذافي مفهوم الدولة، ولا أحد من الذين صعدوا بعده أحزابا وسياسيين قادرا على استعادة الدولة الليبية!