الذكاء الجمعي وتغيير وجه العالم
جيوف مولغان
في خمسينات القرن الماضي، ظهرت جماعة في مينيسوتا بقيادة سيدة اتخذت لنفسها اسم ماريان كيتش، وتنبأت بأنه في ليلة 20 ديسمبر (كانون الأول)، ستحل نهاية العالم، لكن ثمة سفينة فضاء ستهبط قرب منزلها في منتصف الليل لتنقذها، هي وأتباعها.
لم يحدث أي من الأمرين، وظل زوجها الذي كان متشككاً في صحة مزاعمها مستغرقاً في النوم طيلة الليل، إلا أن هذه الفاجعة غير المتحققة لم تثنِ عزيمة جماعتها، وإنما خلص أتباعها إلى أن قوة إيمانهم نجحت في إنقاذ العالم من كارثة وشيكة، وشرعوا في محاولة تجنيد المزيد من «المؤمنين» بحماس.
من جانبه، استغل عالم النفس ليون فستنغر حالة كيتش في التدليل على نظريته حول التنافر المعرفي، التي تصف سبلاً شتى نعمد من خلالها إلى تكييف حقائق وتنقيحها وتعديلها وتشويهها حولنا، من أجل الإبقاء على رؤية متناغمة للعالم. وتعيننا هذه السبل على البقاء، والتمسك بشعورنا بالذات؛ الأمر الذي ينطبق كذلك على المجموعات. إلا أن هذه السبل دائماً ما تشكل أعداءً للذكاء، وعلى نطاق أوسع الذكاء الجمعي. وينطبق الأمر ذاته على الأساليب المعتادة لدينا في التفكير.
ومن ناحيته، ابتكر عالم النفس كارل دنكر مصطلح التثبيت الوظيفي، في إشارة لكيفية صعوبة حل المشكلات، بسبب أننا في الغالب ننطلق من النظر إلى الموقف عبر منظور يرتبط بعنصر واحد فقط فيه، ولهذا العنصر داخل عقلنا بالفعل وظيفة ثابتة.
إلا أنه يتحتم علينا تغيير هذا الأسلوب باستمرار كي نتمكن من تفسير المشكلة على نحو صائب، ناهيك بطرح الحل الصحيح لها. ومن الواضح أن هذا الأمر تحديداً يحمل صعوبة خاصة.
والملاحظ أن الكثير من أفضل ما أنتجه العالم الحديث تحقق من قبل مؤسسات تعزز استقلالية الذكاء. وتخدم هذه المؤسسات عملاءها على النحو الأمثل من خلال سعيها نحو هدف أكبر، وتجنب محاولة الإفراط في جهود كسب رضا العملاء.
وتعد صناعة الطيران مثالاً جيداً على الاستقلالية من هذه الزاوية، والمعروف أن كل طائرة تحوي صندوقين أسودين يتوليان تسجيل البيانات والمحادثات التي تجري استعادتها وتحليلها في أعقاب الكوارث. ويتحتم على كل طيار الإبلاغ عن إخفاقاته من أجل تحليلها. وقد جاءت المحصلة النهائية متمثلة في صناعة أكثر ذكاءً وأماناً بكثير.
ففي عام 1912، مع بزوغ فجر صناعة الطيران، قتل أكثر من ثلثي الطيارين المدربين في الجيش الأميركي في حوادث. وبحلول عام 2015، بلغ معدل الحوادث بالنسبة لشركات الطيران الأساسية ما يقرب من حادث تحطم واحد لكل 8 ملايين رحلة طيران؛ إنجاز أسهمت في تحقيقه مؤسسات تدرس الحوادث والكوارث، وتوصي بخطوات للحيلولة دون تكرارها.
ويعج عالمنا الحديث بمؤسسات تعزز استقلالية التفكير في مواجهة إغراءات الأوهام وخداع الذات.
وعلى سبيل المثال، يعتمد اقتصاد السوق الناجح على شركات مراجعة مالية مستقلة، تتولى تقييم حسابات الشركات بدقة. ويتضرر الاقتصاد ككل، مثلما حدث في الولايات المتحدة، عندما يكون لدى المراجعين الماليين حوافز مادية قوية تدفعهم إلى إرضاء الشركات التي يتولون مراجعة حساباتها.
وينطبق الأمر ذاته على الحكومات، فلا يمكننا الاعتماد فحسب على الأخلاق الشخصية ونزاهة قياداتنا، خصوصا أنه مثلما قال مارك توين، فإن السبب الرئيسي وراء عدم اقترافنا الشر افتقارنا إلى الفرصة لفعل ذلك. وفي المقابل، فإن الحكومة الفاعلة حقاً تعتمد على التفحص والشفافية التي تكشف حجم الأموال الجاري إنفاقها، وأي السياسات تثمر نتائج ملموسة – كل هذا بدعم من مؤسسات ليس للحكومة سوى سلطة محدودة عليها، أو ربما لا سلطة على الإطلاق.
ونرمي عبر هذا المقال إلى التشجيع على خلق مؤسسات جديدة، مثل لجان من الخبراء ومكاتب مستقلة لمراجعة الميزانية، ومصارف مركزية مستقلة يتعين عليها تفسير سياساتها أمام الرأي العام، بحيث تسعى جميعها إلى إتاحة المعلومات على نطاق أوسع، لتقليص المساحة الممكنة لممارسة الخداع، أو السقوط في شرك الوهم والخداع الذاتي.
ويتمثل المبدأ الرئيسي هنا في أنه يحق لأي شخص في السلطة تجاهل المؤشرات القائمة (نظراً لأنها قد تكون خاطئة)، لكن لا يحق له تجاهل وجودها.
– بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
…………….
الشرق الأوسط