فرج عبدالسلام
تسعى مؤسسات بحثية، ومثقفون ينشدون المعرفة، إلى تقديم رؤى مختلفة لدور الفرد وتأثيراته في التاريخ، وتحديد المنابع التي تشكّل رؤى وقرارات صنّاع الحدث لمعرفة لماذا تصرّف ذلك الزعيم بهذه الطريقة أو تلك، وأثّر بالتالي على مصير بلدٍ أو شعبٍ بأكمله، وربما تجاوزهما إلى خارج الحدود.. وما أحوجنا في وطننا المترنّح بشدّة، جرّاء أفعالنا بالدرجة الأولى، إلى القيام بدراسات مترويّة لشخصية القذافي المهمّة في تاريخ ليبيا الحديث، والتي لا ينكر أحدٌ دورَها في المأزق التاريخي الذي نمرّ به الآن. فدون دراسةٍ متأنيّة لمثل هذه القيادات؛ ستصعب معرفة ما يجري في بلادنا الآن… وقد حفّزني إلى التطرّق لهذا الأمر كتابٌ قيّمٌ للباحث العراقي “رياض رمزي” بعنوان “الدكتاتور بطلا” يُسهب في تحليل شخصية الدكتاتور “صدام حسين” وسعى فيه المؤلفُ إلى محاولة تحديد المصادر التي نهلت منها تلك الشخصيةُ الطاغية، وغذّت فكره وقناعاته، ومدى تأثيرها في تصرفاته وقراراته أثناء تسيّده البلادَ.
نقرّ بأن الواقع المرير الذي نعايشه الآن قد يدفعُ الكثيرين، بوعي أو دُونَه، إلى نوع من الحنين لما اعتبروه أمنا وأمانا واستقرارا خلال حقبة الدكتاتور، وبالتالي استهجان الخوض في شخصيته وأفعاله الكارثية، متغاضين ببلاهة تاريخية فريدة، عن الأسباب والظروف التي أدّت بالبلد إلى الوصول إلى المختنق المريع، فانساق بفعل ظروف محليّة وخارجيّة إلى انفجار، لم يكن أحدٌ يعرف نتائجه، ولا يستطيع أحدٌ الآن أن يتبيّن مآلاته. وأحسب أنّ الوضع الحرج الآن هو الذي يؤدي إلى إحجام البحّاثةِ عن الخوض في التحولات السياسية والاجتماعية والنفسية للمجتمع الليبي، وفي رصد شخصية “القائد” المستبدّة، وتحليل “الأنا” المتضخمة لديه، وما الذي ساهم في تشكيل وعيهِ المتطرّف، وأوهامه الخادعة حول الرسالة التي جاء لينشرها في العالم، وظلّ يصدِّق أوهامه حتى الرمق الأخير، والتي تبيّن أنها أهلكت العباد والبلاد.
أهم ما ميّز كتاب رياض رمزي هو تحليل فكرة البطولة عند المستبدّ الذي يُصبح دكتاتورا استثنائيا يمكن مقارنته بطغاة التاريخ مثل نيرون وستالين وهتلر، وغالبا ما أدّت البطولة الزائفة إلى نهاية تراجيدية للدكتاتور وشعبه. ولا نذهب بعيدا حين نستذكر من منطقتنا، أمثلة صدّام والقذافي وعلي صالح، الذين تربطهم طفولة اتسمت بفقرٍ مدقع، وانكباب الأخيريْن على قراءة التاريخ ومحاولة تقمص شخصيات فيه، ما أدى إلى ابتعادهم عن العالم الواقعي المعاش. لكن السمة السائدة في شخصية الدكتاتور أنه غير مهمومٍ بقضايا شعبه، بل يضع مجده الشخصي على سلم الأولويات، ويمسخ كل الآخرين من حوله، فتاريخنا الحديث يُخبرنا أن بداية الحكاية مع من قاموا بانقلاب سبتمبر الذين انعدمت لديهم أي قدرة على تسيير المؤسسات القائمة، حينما سلموا أمورهم بالكامل لشخص واحد، ثم وقفوا أمامه مكتوفي الأيدي، وسرعان ما بدأ يتصيد رفاقه واحداً واحداً، ليزيحهم عن طريقه دون تردد أو رحمة، وبعد ذلك تولّد لديه الإحساس بأنّه امتلك الوطن وكل ما فوقه وتحته.
لعل الأكثر دقة وبلاغة؛ توصيف رياض رمزي، الذي يعتقد أنّ الطغاة ليسوا عظماء إنما استثنائيون، لأن “العظمة فيها الكثير من الأستاذية والحِرَفية. أما الاستثنائية ففيها شيء أو الكثير من الرعونة والطيش والتهوّر”. فحين كان الدكتاتور يتعرّض لحمم القصف، التي لا قِبَلَ له بها كان يعلن أنَّ “الشعب الليبي في القمّة”، ووصف الثائرين عليه بالجرذان. بينما أوصى صدّام وزير دفاعه المتوجه إلى ’خيمة صفوان‘ لتوقيع وثيقة الاستسلام بأن يتصرف كمنتصر فخور بنصره، وألا يمدّ لهم يده بالمصافحة قبل أن يمدوا أيديهم له… إنه الوهمُ بعينه الذي يلازمُ الطغاة فيرفعون أصابعهم بعلامة النصر، حتى وهم يغوصون في الوحل حتى أنوفهم.